الطائفية سلاح ضد الوعي والحرية والتغيير

الطائفية سلاح ضد الوعي والحرية والتغيير
الأربعاء ١٩ يونيو ٢٠١٣ - ٠١:٤٢ بتوقيت غرينتش

قوى الثورة المضادة حققت انتصارات عديدة من بينها هزيمة قطاع واسع من ‘النخبة’ و’المفكرين’ و’العلماء’ و’الاعلاميين’، فاستدرجتهم وجندتهم لصالح الثورة المضادة واحتواء وعي الجماهير وحراكها، وتغيير اتجاه بوصلة التغيير.

وبالاضافة الى ذلك لم تحصر جهودها لمنع التغيير السياسي في المنطقة العربية بإجهاض الثورات او حرف مسارها او السيطرة عليها، بل اصبحت تستهدف اسقاط الحكومات التي انتخبت في البلدان التي سقط  زعماؤها كمصر وتونس لتعميق اليأس في نفوس الجماهير من امكان التغيير.

كان تدخل تحالف قوى الثورة المضادة سريعا وحاسما منذ ان انطلقت الحراكات الشعبية في شمال افريقيا، فمنعت اجتثاث الانظمة السابقة، وتم الإبقاء على ‘الدولة’ القديمة بجيشها واستخباراتها واجهزتها الامنية والمدنية، وسمحت باقصاء اعداد قليلة من المحسوبين على ‘الحكومات’ التي اسقطت.

وبهذا وضع سقف للثورات الاولى يمنع سقوط ‘الدولة’ التي بقيت صاحبة القرارات المهمة التي تتخذها حكومات ما بعد الثورة. ولم يكتف تحالف الثورة المضادة بذلك.
بل اصبحت الآن تعمل بما لديها من امكانات لافشال الحكومات المنتخبة برغم انها تعمل بأدوات الانظمة السابقة. تصدق هذه الحقيقة في مصر وتونس وليبيا بشكل خاص.

فالحكومات المنتخبة محاصرة من كل الجهات، ويتم استهدافها من الداخل والخارج، وتفتعل العقبات التي تعقد اوضاعها وتزيدها توترا بشكل يومي وبوسائل شتى. وحتى الوضع السوري ليس الهدف من التدخلات الخارجية فيه اقامة نظام ديمقراطي بديلا لنظام الاسد، بل تدمير البلد العربي الوحيد من بين الدول المجاورة لفلسطين الذي لم يدخل في اتفاقات تصالح مع الكيان الاسرائيلي واستمر دعمه للمقاومة.

هذا الموقف لا يعني غض الطرف عن تجاوزات النظام واستبداده، فمن حق الشعوب تقرير مصائرها واختيار الانظمة التي تريدها. ويمكن القول ان الحالة السورية تمثل ابشع ما يمكن ان تصل اليه محاولات التغيير في عالم حكم الغربيون عليه بان يبقى سجينا في معتقلات التاريخ ومرتهنا للقوى الغربية التي تعمل لتفعيل مشاريعها السياسية والعسكرية في الشرق الاوسط. 

ومع الاعلان عن بلوغ عدد القتلى السوريين خلال العامين الاخيرين اكثر من 90 الفا، تتضح بشاعة التآمر ضد الشعوب العربية. ولا بد هنا من استحضار ما حدث في الجزائر بعد فوز جبهة الانقاذ الاسلامية في الانتخابات البرلمانية في 1992، فقد بلغ عدد قتلى الفتنة التي حدثت آنذاك اكثر من 150 الفا.

تلك الفتنة لم تكن ذات أبعاد طائفية، بل نجمت عن قرار الغاء التجربة الانتخابية بعد عقود من سيطرة الحزب الحاكم. وكان المطلوب يومها،كما هو المطلوب اليوم، الحفاظ على اوضاع ما بعد سايكس بيكو التي تميزت بالهيمنة المطلقة من قبل انظمة الدول القطرية على شعوبها، مدعومة من قبل القوى الاستعمارية.

تلك القوى ربما غيرت طبيعة وجودها في المنطقة ولكنها لم تتخل عن ممارسة نفوذها الكامل على الانظمة السياسية التي مارست الاستبداد لمطلق ضد شعوبها وحكمتها بالنار والحديد. وحدث امر مشابه في العراق، حيث وجهت قوى التدمير لادخال اكبر بلد عربي في دوامة صراع داخلية لم تتوقف رحى حربها الطاحنة حتى الآن.

والصومال هي الاخرى واحدة من الدول التي اعقب اسقاط نظام حاكمها المستبد، سياد بري، دخول البلاد في دائرة العنف غير المحدود في ظل شبح التقسيم وانتشار التطرف وتوسع دائرة الارهاب وغياب القانون.

من منطلق العقل والحصافة يجب استشراف مستقبل الحكومات (وليس الدول) التي انتخبت من قبل شعوبها في العامين الاخيرين، وفقا لهذه المعطيات.
الهدف من ذلك يجب ان يكون البحث عن وسائل لتجنيب تلك البلدان المصير الدموي البشع الذي واجهته الدول المذكورة. المشكلة التي تعترض هذه المحاولة ان الحكومات المنتخبة تتألف من عناصر تفتقد الخبرة السياسية وتتميز عموما بقدر من الالتزام الديني الذي يفرض على ‘المؤمن’ ان يمتلك صفة ‘حسن الظن’ بالآخرين، ويرفض، بدوافع تربوية محضة، التشكيك في النوايا او البحث عما وراء الظاهر من الامور.

هذه الحقيقة جعلت الحكام الجدد من الاسلاميين عرضة للاستغفال والتضليل من قبل الجهات التي تخطط ضدهم.فبالمكر والخداع والاستدراج استطاعت تلك الجهات إقحام رموز الحكم الاسلامي الجديد في بعض البلدان في المعارك الفكرية والدينية والمذهبية التي فرضت على عالمنا بهدف الغاء امكانات نهضة دوله او تحييدهم. وموقف النظام المصري برئاسة الدكتور محمد مرسي الاخير بإقحام مفهوم ‘الجهاد’ في صراع سياسي بين فئات مسلمة خطأ كبير، خصوصا انه ملتزم باتفاقات كامب ديفيد مع العدو الصهيوني.

والاخطر من ذلك ان المتآمرين ضد ظاهرة التغيير الثوري يعرفون دور الدين في حياة رموز الحركات الاسلامية، ويدركون الحساسيات المذهبية وكيف يمكن ان تتحول الى قوى مدمرة في حال استغلالها وتوجيهها بعيدا عن مبادىء الحوار والاحترام المتبادل وحرية الفكر والاجتهاد.

هذه القوى قد تصبح ادوات تدميرية بايدي عناصر اما تتعمد استهداف الامة ووحدتها بهدف اضعافها، او تنطلق بجهل وعصبية بدون اي حساب للمصلحة والصالح العام وبلا مراعاة لقيم الشرع الاساسية. والنتيجة اصبحت كما تجلت في الواقع المرير الذي تعيشه الامة. فالانقسامات لم تعد بين اتباع مذهب ومذهب آخر، بل بين ابناء المذهب الواحد وبين ابناء الحركة الواحدة. فمن كان يتوقع ان تنقسم حركة حماس على نفسها بالشكل الذي حصل؟

ومن كان يظن ان علماء دين لهم مكانتهم ونضالهم التاريخي سيكونون رأس حربة في فتنة لا ينتصر فيها الا الشيطان؟ فما يطرح بعناوين مذهبية وطائفية وفئوية ليس سوى جانب من الحرب ضد التغيير الذي تحركت شعوب عربية عديدة قبل عامين لتحقيقه.فهل هناك اسلحة اكثر فتكا بأية حركة تغييرية في العالم من سلاح الانقسام الداخلي والفتنة البينية؟

كيف يستطيع جيش ان يحارب وجنوده مهزومون في داخلهم نتيجة الانقسامات؟ كيف تستطيع امتنا ان تحرر اراضيها من المحتلين او ذوي النزعة التسلطية والهيمنة السياسية والاقتصادية وهم منقسمون بين ‘شيعي وسني’ وبين ‘سلفي وصوفي’ وبين ‘اخواني وليبرالي’.

لقد بلغت امتنا مستويات غير مسبوقة من الخلل الفكري والموت الضميري والنضوب الاحساسي حتى ان اكبر بلدانها جغرافيا (السودان) تقسم علنا بقرارات محلية ودولية، بدون ان يقابل ذلك بالتظاهر والاحتجاج والرفض، وكأنه امر طبيعي ان يقسم المقسم ويبالغ في اضعاف الضعيف.

فالذين يتباكون على سقوط الدولة العثمانية قبل تسعة عقود اصبح بعضهم طرفا في معارك التقسيم التي تبدأ عادة بخلافات ذات طابع ديني او عرقي او ايديولوجي. واذا كان علماء الامة آنذاك قد صمتوا عما كان يحاك ضد امتهم،فانهم اليوم ليسوا اكثر شجاعة او اصرارا على منع ذلك، فما الذي جرى لهذه الامة؟

ولكي تتضح بعض معالم خطط الاجهاز على ما تبقى من روح ثورات الربيع العربي يمكن سرد المزيد من الوقائع. وليكن البدء من مصر. هذا البلد العربي الكبير سيبقى المدخل الاساسي للتغيير او الجمود، للحرية او الاستبداد، للثورة او الخنوع.

ولذلك ما ان ثار شعب مصر ضد نظام حسني مبارك حتى تدخلت قوى الثورة المضادة لاحتواء حجم التغيير، فتمت هندسته لينحصر برأس النظام والمحسوبين عليه مباشرة، بينما تم الابقاء على المؤسسات العسكرية والامنية.

سقط رأس النظام وبقيت الدولة التي ترفض حتى الآن الانصياع للحكام الجدد. وبصعود الاخوان المسلمين للحكم تضاعف استهداف مصر قبل ان تتوفر الفرصة للحكام الجدد لاثبات انفسهم في مجال الحكم والادارة، وفي مجال مكافحة الفساد الذي بنيت عليه الدولة في العهود السابقة.واليوم تواجه مصر مشاريع صراعات وفتن وحروب على جبهات عدة.

فسيظل الاخوان مستهدفين من التيار السلفي المتشدد بشكل خاص لاسباب تتعلق تارة بالايديولوجيا واخرى بالمصالح وثالثة بالتدخلات الاجنبية التي تستخدم السلفية أداة لتنفيذ خططها. ولن تسلم مصر من الفتن سواء مع العلمانيين ام الاقباط الذين يستخدم بعضهم اداة لتحريك ملف الانفصال والتقسيم.

وجاء التوتر الحالي مع اثيوبيا بعد تصديق مجلس النواب الشعبي الإثيوبي على الاتفاقية الإطارية التعاونية لدول حوض النيل، والمعروفة باسم ‘اتفاقية عنتيبي’.

وجاء التصويت على الاتفاقية وسط توترات بين إثيوبيا ومصر بسبب مشروع ‘سد النهضة’ الذي تقيمه إثيوبيا على النيل وسيؤدي إلى تحويل مياه النيل إلى سد كهرمائي ضخم. وتتخوف مصر من أن ينتج عن السد انخفاض حصتها من مياه النيل التي توفر أغلب احتياجات المياه في البلد الذي تمثل الصحراء أغلب أراضيه. وقد لوح مسؤولون مصريون باحتمال استخدام مصر للخيار العسكري لوقف بناء السد، كما صرح الرئيس محمد مرسي بأن الخيارات كلها مفتوحة في تعامل مصر مع الأزمة، الأمر الذي دعا إثيوبيا للتصريح بأنها ماضية قدماً في بناء السد.

انه احد المنغصات في طريق اعادة مصر للطريق النهضوي والصعود بها لما يتناسب مع موقعها السياسي والجغرافي.
حكام مصر مستهدفون كنظام سياسي، ولكنهم يواجهون مشكلة الآلة الاخوانية الكبيرة ذات العقود التسعة، التي تستعصي على المرونة وتستصعب استيعاب حقائق الواقع، وتسعى لاقامة منظومة سياسية مؤسسة على مبدأ ‘حسن الظن’ و’ عدم استفزاز الآخرين’ و’سياسة الخطوة خطوة’، وجميعها يعكس تخوفا كبيرا من تبعات سياساتهم وخشيتهم من ردود فعل قوى الثورة المضادة.

الشجاعة امر اساسي في الزعيم والقائد، ليحسم الامور ويتخذ القرارات الشجاعة وان كانت نتائجها غير مضمونة بشكل كامل. اما خيار التريث وعدم اثارة الآخرين، وربما مسايرتهم وعدم استيعاب اساليب التضليل والمكر والايقاع فانما يؤدي الى الضعف ويشجع الآخرين على المزيد من التآمر والاستهداف.

وتونس هي الاخرى مهددة من قبل جهات شتى. فالتيار السلفي متمثلا بتنظيم ‘أنصار الشريعة’ يتحدى السلطة ويستدرجها لمعارك سياسية وامنية. وما الأحداث والمواجهات التي شهدتها مدينة القيروان (وسط تونس) وحي التضامن بالضاحية الغربية للعاصمة التونسية الا تأكيد لذلك.

وفي العاشر من هذا الشهر دعا ايمن الظواهري، زعيم القاعدة، التونسيين إلى الانقلاب ضد حزب النهضة من أجل ‘تحكيم القرآن’. وقاد مئات السلفيين موجة عنف وأحرقوا مراكز للشرطة والمراكز الفنية ومواقع أخرى في عدة مدن، الامر الذي دفع الحكومة لإعلان حظر التجول ليلا.

وقال رياض الصيداوي مدير المركز العربي للدراسات السياسية والاجتماعية في جنيف لاحد مواقع الانترنت: ‘حركة النهضة ستجد نفسها اليوم أو غدا في صراع مع كل من الوهابية والسلفية الجهادية أي القاعدة.

ولا يمكنها أن تبقى إلى الأبد متفادية لهذا الصراع الحتمي’.. يضاف الى ذلك الضغوط الاقتصادية على حكومات دول الثورة، نظرا لتقلص العائدات وتصاعد اسعار الوقود وانتشار البطالة. وهذه جميعا من شأنها اثارة الوضع ضد الحكومة التونسية.

فأغلب منتوج زيت الزيتون والنسيج مثلا – وهما من القطاعات المركزية في الاقتصاد التونسي- يصدَّر إلى أوروبا التي قد تقلل من الصادرات التونسية إليها، أو قد تستعمل الديون التي أسندتها للدولة للضغط عليها. وبدأ تسرُّب السلاح إلى المجتمع التونسي ضمن التهريب غير القانوني للبضائع بين ليبيا وتونس.

وبعد ان وقعت تركيا في الفخ السوري استهدفت هي الاخرى بحركات احتجاجية واسعة لم تكن بحسبان قادة حزب العدالة والتنمية الحاكم، ووجهت الانتقادات الغربية لحكومة اردوغان واصدر البرلمان الاوروبي يوم الخميس الماضي بيانا حث فيه الحكومة التركية على عدم اللجوء الى العنف ضد المتظاهرين السلميين.اودعا رئيس الوزراء رجب طيب اردوغان الى الحوار معهم.

وكان اردوغان الذي كان له دور كبير في الحرب السورية يعتقد انه بمنأى عن التحديات الداخلية التي تستهدف حكومته، ولكن سرعان ما سرى لهيب الثورة في بلده بشكل مروع اكد قدرة قوى الثورة المضادة على استهداف اعتى الانظمة اذا لم يتم تحصين الامة من داخلها بدرء الفتن واستيعاب هويتها واهدافها ووسائلها.

وفي غياب مرجعيات دينية او سياسية لدول العالم العربي، خصوصا الانظمة السياسية الصاعدة على انغام الثورة الشعبية، لا يبدو ثمة امل في احتواء المشاكل التي تثيرها قوى الثورة المضادة ضد الحكومات التي صعدت عبر صناديق الاقتراع، ضمن انظمة سياسية حديثة.

وبذلك يجدر برموز العهد الجديد خصوصا في البلدان التي شهدت حراكات سياسية اطاحت بانظمتها الاستبدادية، استيعاب حقيقة مهمة مفادها ان التغيير السياسي في دول العالم العربي، خصوصا المشرقية منها، خط أحمر لا يقبل الغربيون بتجاوزه.

وليس مستبعدا استهداف هذه الانظمة بشكل تدريجي لاستبدالها بحكومات ترضخ للاملاءات الغربية وتتنازل عن السيادة الوطنية لصالح الاجنبي. والمعركة التي يخوضها هؤلاء لا تنطلق بالضرورة عن رغبة من المشاركين فيها، ولكنها محتومة لانها تخدم اهداف الغرب وممثليه المحليين.

ولذلك اصبح امرا ملحا ان يستوعب زعماء الحركات الاسلامية معاني مظاهر الطائفية والعرقية والتمييز وعدم محاولة القفز عليها او الانصياع لها، بل المطلوب ان تتوجه القوى التغييرية بقرار ذاتي خاص بقناعات جديدة منها ما يلي:
اولا ان الطائفية سلاح قذر يجب ان لايتوقف المسلمون عنده، فضلا عن اعتباره الفيصل في المواقف السياسية والفكرية.
ثانيا: استيعاب حقيقة ان المطلوب ليس وقف الثورات المستقبلية فحسب بل تفريغ انظمة ما بعد الثورة من محتواها الفكري والسياسي والايديولوجي، حتى تصبح غير ذات شأن.

ثالثا: إدراك توجه اعداء التغيير لاختلاق الازمات الاقتصادية الحادة ليصبح الحكام الجدد ‘اسرى’ للمال النفطي والسير وفق مقتضياته وشروطه.
فان لم يتم استيعاب هذه الحقائق واتخاذ المواقف على اساس ذلك الاستيعاب، فستظل قوى الثورة المضادة الكلمة الفصل في تحديد مسارات التغيير.

* د. سعيد الشهابي/ القدس العربي