بالامس القريب وتحديدا في يوم 9 نيسان 2013 أحيا الشعب العراقي مناسبتين هامتين وخطيرتين في آن واحد؛ الاولى هي الذكرى السنوية الثالثة والثلاثين لاستشهاد المرجع والمفكر الاسلامي السيد محمد باقر الصدر (قدس سره) (9/4/1980)، والثانية هي العشرية الاولى للاطاحة بالطاغية "صدام حسين التكريتي"، وسقوط بغداد وذلك بفعل (الغزو الاميركي الاطلسي) الذي اجتاح بلاد وادي الرافدين في 20/3/2003، أي قبل ثلاثة اسابيع فقط من تاريخ ذلك "السقوط المخزي" لنظام شُبِّهَ للرأي العام العربي والدولي أنه "عصيٌ على التزلزل"، فإذا به ينقشع وینهار خلال فترة زمنية وجيزة اذهلت الاعداء قبل الاصدقاء.
لقد قدم "سقوط بغداد المريع"، آنذاك صورة حقيقية عن "ماهوية" النظام الدكتاتوري الفاسد الذي لم يوفر أية وسيلة اجرامية دنيئة لتدمير شعبه قتلا وابادة وتمثیلا ومقابر جماعية وتهجیرا واعتقالا ومطاردة طاولت المعارضين واقرباءهم ــ حتى الدرجة الرابعة ــ فضلا عن اصدقائهم.
لكنه ما لبث أن انهار فجأة وبشكل مدوًّ ودون ادنى مقاومة تذكر بعد ايام من الاجتياح العسكري الغربي للبلاد، وليجد العراقيون انفسهم امام مشهد تراجيدي مشين اختفى منه نهائیا "القائد الرمز" ومرتزقته وجلاوزته الذين اولغوا في دماء الابرياء نساء ورجالا واطفالا طيلة 35 عاما (17 تموز 1968 ــ 9 نيسان 2003).
على صعيد متصل يمكن، وفي ضوء معرفتنا بالنزعة السادية الدمویة للطاغیة الارعن وأعوانه القتلة، وعي حجم الخسارة الفادحة التي لحقت بالشعب العراقي والمرجعية الدينية الكريمة والفكر الاسلامي والانساني في ارجاء المعمورة جراء اعدام الامام السيد محمد باقر الصدر واخته العلوية العالمة (السيدة بنت الهدى) رضوان الله تعالى عليهما، بايدي تلك الطغمة البعثیة الفاسدة.
فعلى الرغم من تشدق النظام بالافكار التقدمية والتنويرية والتحررية تحت ذريعة اعتناق ادبيات "البعث العربي الاشتراكي" الا ان تجارب السنوات الخمس والثلاثين للحكم والسلطة والوحشية في العراق ، قطعت الشك باليقين في أن هذا الحزب بزعمائه وافراده، بعيد وغريب كليا عن القيم الانسانية والاخلاقية والحضارية وحتى الرجولية.
وما العثور على "الطاغية صدام حسين" في حفرة واستسلامه المهین للقوات الامیرکیة دون إبداء أیة مناجزة أو مقاومة ، مع انه كان مدججا بالاسلحة والمتفجرات إضافة الی صندوق يحوي ما يقارب المليار دولار، الا برهان ساطع على هشاشة العقيدة السياسية والفكرية لهذا الحزب الشوفینی الذي حكم العراق بلغة الحديد والنار، وقتل خيرة ابنائه وفي مقدمتهم الشهيد السيد محمد باقر الصدر، دون ان يراعوا فيه حرمة المرجعية الدينية والعبقرية العلمية التي رفدت المكتبة الاسلامية والعربیة والعالمية بأروع المؤلفات الفقهية والاقتصادیة والفلسفية والتاریخیة والاجتماعية على امتداد اكثر من (30 عاما)، علما ان السيد الصدر استشهد في 9 نيسان 1980 وهو في الثامنة والاربعين من العمر.
مما مضى يتضح لنا اننا نقف امام عملاق بل اسطورة في عالم الفكر، لكن هذه الاسطورة لم تتردد لحظة في تجسید المثل الاعلی للمقاومة والجهاد وبذل التضحية والجود بالنفس فی سبیل مقارعة الاستبداد البعثي الصدامي الاسود والانحراف القيمي الذي طبقه الطاغية وزبانيته ، لا سيما على مستوى تكريس الطائفية وحميةالجاهلية والتمییز العنصری في البلاد، فكان الامام محمد باقر الصدر (قدس سره الشريف) بحق ترجماناً واقعیا لتحدي ارهاب الدولة البولیسیة المنظم ، ومدافعا حقیقیا عن الوحدة الاسلامية والتلاحم الوطني البعید عن التعصب الديني والمذهبي والقومي ، لفائدة ازالة ذلك الكابوس الاسود عن صدر العراق الحبيب وشعبه الأبي.
ان السيد الشهيد كان يحض الشعب العراقي خصوصا وأبناء الامة الاسلامية عموما علی الالتزام بالتقوی والزهد والقناعة والتقشف والتواضع فی الحیاة وجهاد النفس والورع عن محارم الله جل جلاله ،وكان سماحته يحذر المؤمنين من مغبة الوقوع في شراك شهوة التسلط والهيمنة على الآخرين شأن حكام الجور المتجبرين على مر التاريخ، وكان الى جانب ذلك ينادي بوجوب ان يتصدى علماء الدين المجاهدون والمفكرون المناضلون والثوريون الرساليون والجماهير المؤمنة لمواجهة المشاريع والمخططات والسياسات الداخلية والدولية الظالمة.
من هنا يبدو جليا ان العراق حكومة وشعبا وهو يعيش الان مخاضا عسيرا، مطالب بتقليد هذا النهج التنويري والتربوي الذي سطره السيد محمد باقر الصدر قبل 33 عاما، متأسيّا بسيرة اجداده الاطهار (محمد وعلي وفاطمة والحسن والحسين صلوات الله وسلامه عليهم اجمعين) مقتديا في تضحيته بالفداء العاشورائي لسيد الشهداء الامام الحسين(ع) في بطحاء كربلاء عام 61 هـ ، طلباً للاصلاح في امة جده المصطفى (ص) عبر آلية الامر بالمعروف والنهي عن المنكر وذلك من اجل اقرار الامن والسلام والمودة بين بني البشر قاطبة
والواقع ان عراق الیوم هو بأمس الحاجة الی هذه المفردات الایمانیة علی الرغم من تضخم التحدیات الداخلیة والاقلیمیة والدولیة حیاله ، لاسیما وان المؤامرات الغربیة الصهیونیة باتت تناصب العداء جمیع المبادئ الاسلامیة الاصیلة علنا، وهی تستخدم الجماعات التکفیریة المزودة بالاسلحة و الاموال والمعلومات الاستخباریة لاغراق ارض النهرین بخاصة والعالم الاسلامی بعامة فی المزید من الحروب الطائفیة وسفك الدماء وفوضى الفتاوى المنافية للدين الحنيف والاخلاق النبيلة.
وازاء ذلك يمكن فهم الدوافع السياسية والمذهبية والقبلية لبعض الجهات المعروفة التي تراهن حاليا على لغة التصعيد والتعنت ورفع المطالب التعجیزیة إمعانا فی مناهضة العملیة السیاسیة ، وسعیا الی اعادة (العراق الدیمقراطی الحر) الی المربع الاول ، أي الى حظیرة "حکام قریة العوجة" متذرعة بالشعارات العنصریة والقومیة ذاتها التی تشدق بها الطاغیة وأعوانه من قبل بدعوی حمایة "البوابة الشرقیة" للامة العربیة ، لکنها فی نهایة المطاف اوصلتهم الی الهلکة والهوان وسوء العاقبة فی الدنیا قبل الآخرة...فهل من مدکر؟؟
* حميد حلمي زادة