فاللافت ان العملية السياسية العراقية تواجه اليوم فتنة كبرى واخطر ما فيها هو مضمونها الطائفي، في وقت كان من المفروض ان تكون هذه العملية قد قطعت مراحل معقدة وعويصة جدا على مستوى ازالة العراقيل والمعوقات وتجاوز التحديات الداخلية والخارجية، باتجاه اطلاق الطاقات الوطنية وتنميتها لفائدة اعادة الهيبة والمکانة المرموقة للدولة العراقية، والاعتبار للشعب العراقي الذي كان ضحية 35 عاما من الحكم الدكتاتوري البعثي الاسود.
الرائع ان العملية السياسية شقت طريقها نحو آفاق رحبة شدت الانظار من جديد الى دور بغداد الريادي . فما حدا مما بدا؟ وما الذي جعل افرادا مطلوبين للعدالة من مخلفات النظام المقبور يطلون برؤوسهم عبر شاشات التلفزة ووسائل الاعلام الاقليمية، والتصريح بكل استهتار ان"حزب البعث"هو الذي يقود الاحتجاجات في المحافظات الغربیة؟!
فالثابت ان التاريخ المخزی لحكم حزب "قریة العوجة" وعبيدها لا يخولهم التفوه بكلمة، بيد انهم بدأوا يظهرون وقاحة ما بعدها وقاحة في مضمار الاساءة الى الحكومة العراقية المنتخبة ديمقراطيا، واتهامها ــ ويا للسخرية ــ بالطائفية، الی جانب الضرب على الوتر العنصري مجددا تحت ذريعة تدخل ايران في شؤون بلاد ما بين النهرين، وهو اسلوب طالما تفنن فيه ازلام النظام البائد لتكريس المزيد من التناقضات والتوترات بين بغداد وطهران من جهة، ولتبييض ما اسود من ممارساتهم الابادية والعدوانية والهمجية داخليا وخارجيا من جهة اخرى.
اذن فنحن نعتقد ان الرأي العام العالمي بحاجة الى معرفة الادوات الخارجية المحركة للازمة السياسية الراهنة، وتسليط الاضواء على الدواعي التي جعلت بعض اشباه العلماء لا يتورعون عن التغني بايام الطاغية وعلم النظام البائد وحزب البعث بل وعلم "القاعدة"، ومحاكاة التيار التكفيري الطائفي الذي يصول ويجول في العالم العربي ولاسيما في العراق وسوريا، حتى لكأن الامة الاسلامية قد خلت من العلماء الافاضل والمفكرين الكرام والمثقفين الواعين والاناس الخيرين الذين خبروا هذا التيار و مناصریه وداعميه ومموليه ومسلحيه، وشاهدوا بأم اعينهم حجم الجرائم والاعمال الارهابية والتدميرية التي مارسها افراده باسم الدين وهو بريء منهم تماما.
واضح ان اعداء العملية السياسية في العراق الذين اعادوا انتاج انفسهم تحت واجهات ومسمیات مختلفة ، داخل العملیة و خارجها، وباتت "الطائفية العمياء" و"تأجیج الخلافات"، سلاحهم الاكثر فتكا في هذا الاتجاه، يظنون ان الدعم السعودي والقطري والاماراتي الذي ينهال عليهم هذه الايام بلا حدود، وبوحی من التعلیمات الغربیة الاسرائیلیة، ربما يمكنهم من دخول الحلبة مرة اخری لفرض جميع الاجندات الجهنمية على الشعب العراقي وقواه الوطنية ومذاهبه المؤمنة وسياساته المستقلة، وهو برأينا حلم بعيد المنال.
لقد استفاد (البعثيون المنبوذون) من تداعيات الازمة والتظاهرات والاحتجاجات، حتى ظنوا بأنه قد أزفت آزفة استئناف دورهم الدموي البشع، وحسبوا بان الشارع العراقي الذي يعاني ــ فعلا من التناقضات الراهنة - يمكن ان يجنح مثلا الى تكرار تجربة نظام الحروب العبثیة علی ایران و الکویت ونشرالمقابر الجماعية والتطهير العرقي و مجازر الانفال وكيمياوي حلبجة ، و ما لا یعد ولایحصی من الجرائم الفظیعة.
بيد ان هؤلاء الهاربين من وجه العدالة والذين ينتظر الشعب العراقی على احر من الجمر القاء القبض علیهم بالتعاون مع (الانتربول) شریطة تسلیمهم من قبل الدول التی تأویهم احتراما لمشاعر عوائل ملایین الشهداء طیلة 35 عاما من حکمهم الطائفی العرقی المرعب، من اجل محاکمتهم امام القضاء و تنفيذ القصاص العادل فيهم..
أقول ان هؤلاء ما برحوا اسارى "احلام العصافير" كونهم لا يريدون تصديق ان عهدهم المظلم قد انتهى وولى دون رجعة، حتى وان تربعوا على كنوز الارض وما سرقوه من خزائن العراق وشعبه لتمويل مؤامراتهم السياسية والطائفية والعنصرية.
واقع الامر ان الشعب العراقي بجميع طوائفه وقومياته وتياراته، له كل الحق في ان يقول كلمته، وان يعطي صناع القرار والساسة والناشطون في الساحة آذانا صاغية لها، فقد ابرزت السنوات العشر الماضية ان (العملية السياسية) مازالت رهينة للصراعات الداخلية والتدخلات الخارجية، وازاء ذلك فان من السذاجة والضبابية بمكان، معالجة الازمة الراهنة على وجه التسطيح، والقرارات القشرية.
ان الدولة العراقية مدعوة بكل قوة الى ايجاد مقاربة سياسية واجتماعية وانسانية دقيقة من اجل ان يشعر المواطن ان مطالبه المشروعة سوف تجد طريقها للتحقق على قاعدة العدالة والمساواة والانصاف، بعيدا عن اية ميول او توجهات حزبية او مذهبية او عنصرية.وخلاف ذلك فان التغييرات الظاهرية لن تكون سوى مضيعة للوقت وتعطيلا للطاقات الجبارة التي تزخر بها بلاد وادي الرافدين.
لكن الشيء المؤكد هنا هو ان "البعثي" و"الطائفي" و"التکفیری " يشكلون معا عصابة من القتلة والمجرمين الذين يعادون العراق الجديد ومنجزاته ويحاولون ــ مستمیتین ــ اغراق البلاد والشعب والعملية السياسية في بحار من الدماء والخلافات والنزاعات، وهو ما يعتبر "غاية المنى" مادامت آمالهم في التحكم برقاب المواطنين سنة وشيعة ، مسلمین و مسیحیین وصابئة، عربا واکرادا وترکمانا، هي من سابع المستحيلات.
لقد اثبتت تطورات الاحداث ان المواطن العراقي لم يعد يعبأ بشعارات "رغد العوجة" و لا بتفاهات "ابليس الدوري" ولا بخرافات "القاعدة" وهو لا یقیم لها وزنا، لان الاجواء الديمقراطية ونسائم الحرية التي تنعم بها طيلة عقد من الزمن، صنعت منه انسانا جديدا واعيا بالمجريات من حوله، ومؤهلا لان يكون بمستوى التصدي للمؤامرة الغربية ـ الاسرائیلیة- الخليجية ـ التركية ـ التي تسعى لارجاعه الى عهد الظلمات.
حميد حلمي زادة