علاقاتٌ فوق العادة نُسجت بين قطر وفرنسا في عهد الرئيس الفرنسي السابق نيكولا ساركوزي. حرارةُ الصداقة الشخصية بين سيّد الإليزيه آنذاك وأمير قطر الشيخ حمد بن خليفة آل ثاني انسحبت على متانة الروابط بين البلدين في الشؤون الاقتصادية والسياسية والاستراتيجية.
احتلت قطر صدارة العلاقة مع فرنسا على حساب دول الخليج الأخرى. الأميرُ القطري كان أول زعيمٍ عربي يزورُ الإليزيه في بداية عهد ساركوزي (مايو 2007)، فيما بردت علاقات باريس والرياض (منذ زيارة ساركوزي لها وانتهاجه سلوكاً اعتبرته الاوساط الرسمية السعودية أقرب إلى قلة الأدب)، ولم تُسجل باريس اختراقات لافتة في دول الخليج الأخرى.
علاقاتُ ساركوزي - حمد قادت البَلدان الى ما يشبه المحور على المستوى الدولي اقتربا به من تركيا وسوريا في ما كاد أن يكون حلفاً رباعيا تجسد في القمة التي جمعت زعماء هذه الدول في دمشق (سبتمبر 2008)، قبل أن يُفجّر الحدثُ السوري ذلك السعي فيعودُ كل فريقٍ ليغني على ليلاه.
تقدمت قطر إلى الداخل الفرنسي من بوابة الاقتصاد. امتلكت هيئة الاستثمار القطرية QIA (يرأسها رئيس الوزراء القطري الشيخ حمد بن جاسم) حصصاً مهمة في كبرى المجموعات الاقتصادية والصناعية الفرنسية. واقتنت الهيئة عددا من أعرق الفنادق الفرنسية، قبل أن تشتري فريق العاصمة لكرة القدم "باريس سان جرمان"، وقبل قيام قناة الجزيرة الدولية الرياضية بشراء معظم مباريات الدوري الفرنسي بما شكّل منافسة قاسية لمجموعتي "كانال بلوس" و"أم 6" التلفزيونيتين.
بالمقابل غزت الشركات الفرنسية المشاريع الاقتصادية في قطر لا سيما تلك في ميدان الإعمار، وقطاع الانشاءات الهائلة الخاصة بكأس العالم لعام 2022، اضافة لقطاع الطاقة لا سيما مع مجموعة توتال.
بيد أن شيئاً ما يوترُ علاقات فرنسا فرنسوا هولاند بإمارة قطر هذه الايام. الأمرُ خرج من كواليس الدبلوماسية ومن همهمات المراقبين، وبات علنياً تُفصح عنه الصحافة ويتمُّ تداوله جهاراً على ألسنة السياسيين. باريس تتحدث عن دورٍ قطر في تمويل وتسليح الجماعات الإسلامية في شمال مالي، ليس فقط بما يتناقض مع مصالح فرنسا، بل بما يتناقض مع مصالح الجزائر أيضاً.
في فرنسا، واذا ما صمت اليمين الديغولي القريب من ساركوزي، فإن زعيمة اليمين المتطرف مارين لوبن، كما عدة شخصيات قيادية في الحزب الاشتراكي (حزب الرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند) شنوا حملة شعواء ضد ما وصفوه " بالدور المشبوه لصديقتنا قطر" في تمكين الإسلاميين من السيطرة على شمال مالي، وتسهيل تمرّكز القاعدة وأخواتها في منطقة الساحل الأفريقي.
والمسألة ليست عبثية شعبوية تُطلق لأغراض المزايدة الداخلية، بل تستندُ على تقارير استخباراتية نشرتها صحف باريس (قيل أنها رفعت الى الإليزيه أيام ساركوزي لكنه أهملها آنذاك لعدم اخراج "صديقه القطري" حسب الصحافة الفرنسية).
تكشفُ التقارير، بالمعلومات والأرقام، حركة الدعم المالي والقطري للجماعات في شمال مالي (عمدة مدينة غاو كشف لإحدى الإذاعات الفرنسية قبل أشهر عن دعم قطري إلى الإسلاميين يصلُ يوميا إلى مطاري غاو وتمبكتو).
فيما ذهبت مارين لوبين، آنفة الذكر، إلى اتهام قطر بأنها وراء تمويل وتسليح "كل الاسلاميين في العالم"، بما سيقود إلى كارثة احتمال قيام افغانستان جديدة على أبواب أوروبا، حسب مراقبين فرنسيين.
على أن الضيق الفرنسي بدأ يظهر قبل مسألة مالي، من خلال ما كُشف عنه من تمويلات قطرية ضخمة تُعد لتمويل مؤسسات ومشاريع في ضواحي باريس ومدن اخرى ذات الاغلبية المسلمة، (وهي مناطق فجرت اضطرابات كبرى قضّت مضجع البلاد قبل سنوات) على نحو أثار أسئلة حول ما ترومه الدوحة من خلال استثماراتها الاجتماعية في تلك المناطق، لا سيما وانها تدعمُ "أسلمةً" مفترضة تخشاها فرنسا وتُحذّر منها أجهزة الأمن لديها.
"العبث" الداخلي أُضيف إلى عبثٍ خارجي في الميدان الحيوي لفرنسا في أفريقيا. أما أساس الطموحات القطرية في مالي فتعود حسب مصادر متابعة في باريس إلى عزمِ على الحصول على نصيب وافر من ثروات الطاقة التي تختزنها أراض منطقة الساحل الأفريقي، لا سيما في مالي والنيجر(معلومات ذكرت أن مفاوضات كانت جرت بين الدوحة ومجموعة توتال الفرنسية قبل سنوات في شأن استغلال حقول الطاقة مستقبلا في المنطقة).
المسألة اذاً تدور حول مستقبل المنطقة في مجال النفط والغاز. ففي أول هذا العام، وبموازاة اعمال العنف التي انتشرت في شمال مالي، أعلنت توتال الفرنسية عن توقيع اجازتي استكشاف مع السلطات الموريتانية في حوض تاوديني. قبل ذلك في شهر فبراير من العام الماضي، كشفت الصحافة الجزائرية أن توتال وشركة سوناطراك الجزائرية للطاقة يتشاركان في عدة مشاريع في الساحل، فيما بدا أنه سعي فرنسي - جزائري مشترك للحصول على أكثر العقود في مشاريع مالي والنيجر.
أضحت المنطقة محطّ أنظار وجاذبه لانتباه المعنيين الإقليمين والدوليين، منذ الاعلان عن اكتشافات هائلة من النفط والغاز في حوض تاوديني الذي يمتد على مساحة 1.5 مليون كلم متربع بين مالي وموريتانيا والنيجر. وفيما تتهم أوساط فرنسية قطر بنشر "اسلامييها" تمهيدا لتثبيت حصة كبرى لها في ثروات المنطقة الواعدة، يرى المراقبون أن حزم التحرك الفرنسي في مالي، بدعم جزائري نادر، قلب الامور رأسا على عقب وأخرج العامل القطري من المعادلة.
حلفُ مصالح يجمعُ باريس والجزائر ضد الدوحة. علاقات الجزائر وقطر أصابها برود منذ قيام الدوحة بتشجيع اسقاط الأنظمة في ليبيا وتونس ومصر، وقيام أنظمة اسلامية تتوجس الطبيعة الجزائرية الرسمية منها. وجاءت مسألة شمال مالي، بما فيها العملية التي استهدفت مجمع عين امناس مؤخراً، ليصب زيتا على جمر تحت الرماد بين البلدين (المعلومات الفرنسية تحدثت أن قطر موّلت حركة التوحيد والجهاد التي خطفت سبعة دبلوماسيين جزائريين).
هناك من يذهب إلى الحديث عن حالة حرب عسكرية مقنّعة بين باريس والدوحة. ذلك أن القوات الفرنسية عملياً، ووفق ما سبق، كانت تقاتل "الجماعات" القطرية في مالي. ولا شك أن في الأمر مبالغة، ذلك أن الدوحة مضطرة إلى تبريد ذلك التوتر مع دولة أوروبية كبرى لا تملك منازلتها وتستثمر في كبرى شركاتها الصناعية (رغم الخسائر التي منيت بها مجموعتي" لاغاردير" و"فينسي" التي تمتلك الدوحة حصصا كبرى بها)، فيما باريس، التي حققت ما تريده في مالي (حتى الآن على الأقل)، غير مضطرة إلى طلاق يحرم شركاتها عقودا ضخمة في قطر، كما يهدد تدفق الاستثمارات القطرية التي تحتاجها فرنسا هذه الايام (سفير قطر في باريس تحدث الخريف الماضي عن امكانية ضخ بلاده 10 مليارات دولار في كبرى الشركات الفرنسية).
لكن تشققا كبيرا قد سُجّل بين باريس والدوحة. فرانسوا هولاند يقترب من الخليج عامة، ويقارب المنطقة بشكل مختلف (لاحظ زيارتيه الإخيرتين للسعودية والإمارات)، على نحو يؤشر أن "الساكوزية" القطرية تلاشت بغياب ساركوزي، وأن الزواج بين البلدين أضحى مستحيلاً حتى لو لم يفضّ أبداً إلى طلاق.
ميدل ايست أونلاين - بقلم: محمد قواص