العالم -الجزائر
يبدو أنه لا تتوفر في الظرف الحالي أي مؤشرات بوجود إمكانية للعودة إلى نسق ما قبل يوليو/ تموز 2024، على الرغم من جملة عوامل ضاغطة على فرنسا كون الجزائر بلداً مهماً بالنسبة إليها، خصوصاً في توازنات منطقة الساحل، أو تلك الضاغطة على الجزائر التي تراعي مصالح أكثر من ستة ملايين جزائري يقيمون في فرنسا.
يتحدث وزراء في الحكومة الفرنسية عن التفكير في خيارات عقابية تجاه الجزائر، كتقليص التأشيرات ووقف مساعدات برامج التنمية وفرض تعريفات جمركية إضافية على الجزائر، وذلك رداً على رفض الجزائر التعاون لاستقبال رعايا جزائريين مبعدين من فرنسا بتهم التحريض على العنف. مثل هذه الأفكار، بغض النظر عن مصداقيتها السياسية وفاعليتها في التأثير على مواقف الجزائر، تكشف بوضوح المنعرج الحاد الذي بلغته العلاقات بين البلدين، وبسرعة تغذيها التصريحات الإعلامية المشحونة، والمواقف والخطوات المتشنجة، على غرار قرار باريس ترحيل مواطن جزائري دون الالتزام بالإجراءات المتبعة. وكانت الجزائر قد رفضت أخيراً استقبال مؤثر جزائري، هو نعمان بوعلام، بعد قرار الداخلية الفرنسية ترحيله وسحب إقامته، إذ تمّت إعادته على نفس الطائرة إلى فرنسا، حيث سيحال إلى المحكمة في 24 فبراير/ شباط المقبل، بتهم التحريض على العنف والكراهية، بحق نشطاء جزائريين معارضين للسلطة، يقيمون في فرنسا.
ما هو واضح أن العلاقات بين فرنسا والجزائر اليوم في نقطة حسم تاريخي، فإما أن تتم إعادة بنائها على قواعد وأسس تأخذ بعين الاعتبار مصالح كل طرف وتوفر إطاراً سياسياً لتسوية القضايا الخلافية، السياسية والاقتصادية والتجارية والثقافية، وإما أن تنزاح العلاقات إلى قطيعة يجري تأثيرها على كثير من النواحي والقضايا الثنائية والإقليمية، تلك التي تلعب فيها الجزائر وفرنسا أدواراً ما.
وتعزّز الكثير من التقديرات السياسية هذا الاتجاه، وتعتبر أن العلاقات بين الجزائر وفرنسا كانت دائماً ذات طبيعة وشراكة معقّدة، لكنها شهدت في السنوات الأخيرة تصعيداً خطيراً يبدو أنه سيفضي إلى قطيعة غير مسبوقة بين البلدين، وأن هناك مشكلة سياسية لدى الطرف الفرنسي في فهم صحيح وقراءة سليمة للتحولات التي تشهدها مؤسسة الحكم في الجزائر، وخلفيات الجيل الحاكم صانع القرار في الجزائر سياسياً وعسكرياً، خصوصاً بعد الحراك الشعبي عام 2019، والذي مثّل قطيعة حقيقية، بحيث كانت القراءة الفرنسية التي عبّر عنها بوضوح وزير الخارجية الفرنسي الأسبق برنار كوشنير، أن موت جيل الثورة وغيابه عن الحكم، وصعود جيل ما بعد الاستقلال إلى الحكم (عبد المجيد تبون هو أول رئيس جزائري من خارج حقل الثورة)، سيساعد في تجاوز عقدة الذاكرة ومشكلات التاريخ. لكن الذي حدث هو العكس، فالجيل الجديد يبدي تمسكاً أكبر بمطالب الذاكرة، ويدفع بالعلاقات مع فرنسا أكثر نحو التمركز حول ملف الذاكرة كأساس مرجعي لتطبيع العلاقات.
حسابات خاطئة
وقال الباحث في العلاقات الدولية سيف الدين قداش، في حديث لـ"العربي الجديد"، إن السبب الأساسي في هذا المنحى للعلاقات بين الجزائر وفرنسا "هو أن فرنسا التي لطالما اعتبرت الجزائر جزءاً من مجال نفوذها التاريخي، لم تستطع التكيف مع التغيرات الجذرية التي طرأت على البلاد بعد الحراك الشعبي في 2019". وأوضح أن "هذا الحراك الذي انطلق من مطالب شعبية عميقة بإعادة تقييم السياسات الداخلية والخارجية، دفع الجزائر نحو تعزيز سيادتها الوطنية والتأكيد على استقلاليتها في اتخاذ القرارات، ما تبع ذلك من تحولات في السياسة الخارجية الجزائرية أظهرت أن الجزائر في طور إعادة صياغة علاقاتها الدولية بعيداً عن الهيمنة التقليدية التي كانت تمارسها القوى الاستعمارية، وعلى رأسها فرنسا".
ورأى قداش أن "تصريحات الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون الأخيرة عن (الكاتب الجزائري) بوعلام صنصال، والسابقة التي شكّكت في شرعية النظام الجزائري وأساءت إلى تاريخ الأمة الجزائرية، تعكس افتقار باريس إلى الفهم العميق للتحولات التي تشهدها الجزائر". وعلى هذا الأساس توقع قداش أن تصبح العلاقات بين الجزائر وفرنسا "بمثابة ساحة تناقضات بين مشروعين مختلفين: مشروع الجزائر الذي يهدف إلى الحفاظ على استقلالها والسيادة الوطنية، ومشروع فرنسا الذي ما زال يراهن على استعادة النفوذ والتدخل في شؤون البلدان التي كانت تحت استعمارها".
يذكر أن الرئيس الفرنسي طالب خلال الشهر الحالي السلطات الجزائرية بالإفراج عن الكاتب بوعلام صنصال، قائلاً إن "الجزائر تسيء لسمعتها باعتقاله". واعتقلت السلطات الجزائرية صنصال (75 عاماً) في مطار هواري بومدين منتصف نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي بتهمة تعريض أمن الدولة للخطر، وجرى الحديث عن تدهور حالته الصحية. واستنكر البرلمان الجزائري تصريحات ماكرون واصفاً إياها بـ"غير المسؤولة"، كما اعتبرت الخارجية الجزائرية تصريحات ماكرون "تدخلاً سافراً وغير مقبول في الشؤون الداخلية للجزائر". من جهتها، أوقفت السلطات الفرنسية أخيراً ثلاثة مؤثرين جزائريين، بسبب منشورات اتهموا فيها بالتحريض على الإرهاب وأعمال العنف ضد معارضي النظام الجزائري المقيمين في فرنسا. أحد هؤلاء بوعلام، الذي اعتقل في مونبلييه بجنوب فرنسا.
ومن بين أكثر المخاوف القائمة في سياق التداعيات المباشرة لأزمة العلاقات بين الجزائر وفرنسا هو انعكاساتها المباشرة على أوضاع المهاجرين، حيث تمثل الجالية الجزائرية مجموع ستة ملايين إلى سبعة ملايين شخص في فرنسا، أغلبهم من مزدوجي الجنسية، وهو ثقل ديمغرافي كبير يمكن أن يخلق مشكلات لفرنسا، وسط مخاوف من إمكانية أن تندفع الحكومة والمؤسسات الفرنسية إلى مزيد من التشدد في قضية الهجرة وحركة تنقل الأشخاص.
هذه المسألة أشار إليها وزيرا الداخلية والخارجية الفرنسيان، برونو ريتايو وجان نويل بارو، أول من أمس الجمعة، حيث تحدث ريتايو عن إمكانية تقليص عدد التأشيرات الموجهة لصالح الجزائريين لدخول فرنسا وفضاء شنغن، رداً على عدم تعاون الجزائر في استقبال المُبعدين، وهو القرار نفسه الذي كانت قد اتخذته باريس في أكتوبر/ تشرين الأول 2021، عندما قرّرت خفض التأشيرات الممنوحة للمواطنين الجزائريين، بنسبة 50% (جاء تتويجاً لسلسلة أيضاً من التوتر بين البلدين رافقتها تصريحات لماكرون اعتبرت مسيئة للجزائر)، خصوصاً في ظل الاعتقاد بوجود رغبة فرنسية في استغلال قضية المؤثرين الجزائريين، في هذا الاتجاه. كما نقل عن بارو اعتباره أن "باريس لن يكون لديها خيار آخر سوى الرد إذا واصل الجزائريون هذا الموقف التصعيدي"، مشيراً إلى أن "الأوراق التي يمكن تفعيلها التأشيرات ومساعدات التنمية"، وحتى "عدد معين من مواضيع التعاون الأخرى". لكن الإذاعة الفرنسية "أوروبا 1" نقلت أول من أمس، عن مصدر دبلوماسي وصفته بالكبير، أن الخارجية الفرنسية "لا ترغب في الدخول في هذه الاعتبارات لكون أن قضايا التأشيرات ومسألة مساعدات التنمية، لا يمكن أن تكون وسيلة للضغط".
ورقة الهجرة والمهاجرين
ولفت الباحث في سياسات الهجرة، المقيم في فرنسا، فيصل أزغدارن، إلى أن هناك انعكاساً مباشراً لأزمة العلاقات على قضايا الهجرة والمهاجرين وحركة تنقل الأشخاص بشكل عام. وقال لـ"العربي الجديد": "يجب أن نعلم أنه كلما اشتدت الأزمة بين البلدين، فإن المهاجرين والهجرة وتنقّل الأشخاص هي التي تدفع الثمن، خصوصاً أن اليمين هو الذي يحكم السياسات في فرنسا في الوقت الحالي، بدليل أنه بعد سقوط حكومة ميشال بارنييه قبل شهر، بقي وزير الداخلية روتايو في التشكيلة الحكومية الجديدة، وهذا أمر مثير للجدل، وهذا بسبب سياساته اليمينية التي تلتقي وتتقارب مع كل اليمين المتطرف الأوروبي ومع الأحزاب الداعمة للصهيونية". واعتبر في هذا السياق أن "ما سيعقّد العلاقات الجزائرية الفرنسية التي وصلت إلى نقطة اللاعودة، على الأقل في ما تبقّى من ولاية ماكرون، هو أن اليمين المتطرف يخيم على المشهد السياسي الفرنسي بالإضافة إلى الفضاء الإعلامي الذي يساهم منذ مدة في نشر نوع من الجزائروفوبيا (رهاب الجزائر)". واعتبر أن "فحص السياسات الفرنسية تجاه الجزائر ودول أفريقيا يبرز غياباً فادحاً للاستشراف، وانعداماً للبعد الاستراتيجي".
وبخلاف كل الأزمات السياسية السابقة بين الجزائر وباريس، بما فيها أزمة 2021، لا تبدو في الأفق أي مؤشرات لإعادة تسوية العلاقات وتطبيعها على نحو يعيد التوازن في التعاون الاقتصادي والتجاري والاتصالات السياسية بين البلدين، خصوصاً أن العلاقات تسير بسرعة نحو حالة قطيعة سياسية واقتصادية وتجارية، إذ ترفض الجزائر إعادة سفيرها إلى باريس منذ يوليو الماضي، وتكاد الجزائر توقف باب توريد السلع والبضائع من فرنسا، كما استُبعدت الشركات الفرنسية من الحصول على صفقات في الجزائر. لكن نواباً في البرلمان الجزائري يعملون في مجال تمثيل والدفاع عن الجالية في فرنسا، يرون أن هناك إمكانية على مستوى القنوات النيابية لفتح نقاش صريح حول الأزمة والعلاقات.
وفي السياق، أعرب عضو لجنة الشؤون الخارجية في البرلمان الجزائري، النائب عن الجالية في فرنسا عبد الوهاب يعقوبي، عن أسفه لتوتر العلاقات بين البلدين، مضيفاً أنه "حان الوقت للمسؤولين من الجانبين، الفرنسي والجزائري، لاختيار طريق الحكمة والحوار الدبلوماسي، بدلاً من الانجرار وراء خطابات الكراهية التي يروّج لها المتطرفون الاستعماريون الجدد". وبرأيه، فإنه "يمكن البدء بلقاء لجان الصداقة البرلمانية بين البلدين لنقاش صريح ومباشر، بعيداً عن الشدّ والجذب والعوامل التي تسمم العلاقات، من أجل إيجاد مسالك لتجاوز الأزمة". وتابع: "يتعين على السياسيين في فرنسا، ومن الضروري، وقف التلاعب بالرأي العام باستخدام قضية المؤثرين الجزائريين كوسيلة للتضليل السياسي والإعلامي، في وقت تواجه فيه الجمهورية الفرنسية واحدة من أخطر الأزمات السياسية في تاريخها".
المصدر: موقع العربي الجديد