لست اخفي انني احد الذين يستريبون من زيارة المسؤولين الاميركيين للقاهرة وتوددهم لها، خصوصا بعد الثورة، وهنا التوجس يتزايد اذا كانوا بين العسكريين. وعندي في ذلك عدة اسباب منها انني اعتبر ان الاصل في عموم السياسيين الاميركيين هو عدم البراءة. اما اذا كانوا عسكريين فقلة البراءة تتضاعف وتصبح مسكونة بالخوف والقلق. اذ يكفي ان يكون اولئك السياسيون او العسكريون اصدقاء اعدائنا وفي خدمتهم. واذا كان عدو عدوي صديقي، كما يقول المثل الشائع، فان صديق عدوي، (حبيبه ان شئت الدقة)، ليس كذلك قطعا.وبالتالي فان كل قبلة يبعث بها الينا فهي اما ضارة او مسمومة.
السبب الثاني للتوجس ان الثورة قامت ضد نظام حليف للولايات المتحدة، واذا كان رئيسه قد اعتبر كنزا استراتيجيا لاسرائيل، فلابد انه كان اكثر من ذلك بالنسبة للولايات المتحدة والغضب الهادر الذي اسقط مبارك ونظامه لابد ان يكون للساسة الاميركيين منه نصيب. واذا كان شبابنا قد عبروا عن مشاعرهم ازاء السياسة الاسرائيلية بالصورة التي يعرفها الجميع، فلا يشك احد ان مشاعر شبابنا ازاء الولايات المتحدة ليست افضل كثيرا. واذا كان الغضب في وجه السفارة الاسرائيلية قد انفجر بعد مقتل الجنود المصريين الخمسة، فاننا لا نعرف متى يمكن ان ينفجر الغضب في وجه السياسيين الاميركيين، وان كنا لا نشك في انه قائم ومخزن.
ازاء ذلك، فانه يظل مستغربا بل محيرا الا يتغير شىء في علاقات مصر بالولايات المتحدة بعد الثورة. وان العلاقات الايجابية التي كانت قبل 25 يناير عادت الى ما كانت عليه بعد ذلك التاريخ، بحيث اننا لم نستشعر ان هناك اي برود او توتر في العلاقات، كان مبارك لم يسقط وكان رجاله لايزالون في مكاتبهم وسياسته الخارجية لم تتغير. الامر الذي يؤيد الانطباع الذي يروج له البعض من ان راس النظام سقط حقا ولكن جسمه لايزال مستمرا وخريجي مدرسته لايزالون يتبواون مواقعهم المتقدمة.
لم اجد حتي الان من يفسر لي كيف يمكن ان تكون علاقات القاهرة وواشنطن «سمنا على عسل» قبل 25 يناير ثم تظل كذلك بعد ذلك التاريخ. لست ادعو الى اشتباك مع الولايات المتحدة، ولا الى قطع العلاقات معها، ولكنني ادعو الى تمايز ومسافة تقنعنا بان القرار السياسي المصري قد اصبح اكثر استقلالا بعد الثورة، وان الادارة الاميركية بلغتها رسالة مفادها ان ثمة متغيرا مهما حدث في مصر، وان ما كانت القاهرة تقبل به وتحتمله في السابق قد لا تقبل به او تحتمله بعد 25 يناير، حين ثار الشعب دفاعا عن كرامته وكرامة بلده ايضا.
لو ان الاجتماع الذي تم بين رئيس الاركان المصري وبين القائد العسكري الاميركي تم في ظروف اخرى لقلنا ان اللقاء تم لمناقشة الشؤون العسكرية التي ليس لنا ان نخوض فيها، رغم اننا لا نعرف مداها ولا نفهم مبررها، ولكن الحاصل ان السيد عنان ليس رئيسا للاركان فحسب وانما هو نائب رئيس المجلس العسكري الحاكم ايضا، والرجل له دوره في دائرة القرار السياسي وله نشاطه الذي صار على تماس مستمر مع ترتيب الاوضاع السياسية المستجدة في البلد، خصوصا مع ما تعلق بخطوات تسليم السلطة للمدنيين. وهو ليس مستمعا فقط ولكن له اراءه الخاصة المعلنة في شان المستقبل السياسي، التي قد تتفق مع بعضها ونختلف مع البعض الاخر.
في الجزء الثاني من الحوار الذي نشره الاهرام مع الاستاذ محمد حسنين هيكل امس (20/9) قال اننا لا نعرف ما يكفي عن موضوعات اساسية تتعلق بالمستقبل. كان من بينها ملف العلاقات مع الولايات المتحدة الاميركية، وما يتصل به من اثار وتبعات، وقال ان الاوضاع في مصر مقيدة بكثير من العقد باكثر مما يتصور الناس. ونبهنا الى ان الاحوال في مصر اشبه ما تكون بجبل الجليد، اكثره غاطس تحت الماء واقله ظاهر فوقها.
من مصادفات الاقدار ان عدد الاهرام الذي نشر خبر اجتماع الفريق عنان مع القائد العسكري الاميركي على الصفحة الاولى هو ذاته الذي نشر كلام الاستاذ هيكل على الصفحات الداخلية، الامر الذي دفعني الي التساؤل عما اذا كان اللقاء متعلقا بالجزء الظاهر ام الغاطس من جبل الجليد الذي تحدث عنه. الشعب يريد ان يفهم لكي يطمئن على ثورته.
* فهمي هويدي
?