مشهد الحسين.. قيلة المريدين في ليالي رمضان!

مشهد الحسين.. قيلة المريدين في ليالي رمضان!
الثلاثاء ٠٥ يونيو ٢٠١٨ - ١٢:٤٧ بتوقيت غرينتش

يستقبلك عبير البخور المستكى من على بعد، يصطحبك عبر الحارات الأثرية والأقبية المتداعية بعيدًا عن صخب المدينة إلى وداعة رحاب الحى العتيق.

العالم - منوعات 

يفتح الحسين (ع) ذراعيه مرحبًا بالزائرين، تحتضنك نفحات الأجواء الرمضانية العطرة، بين أضواء ألوان الزينات المتلألئة، وتصافحك جدران مبانى ومداخل الأزقة، تسرى بينها أواصر الود على امتداد خيوط الزينة، التى تلضم الشرفات بالنوافذ، وتشى بأسرار محبة خالصة، أبت قلوب الأهل والجيران إلا أن تفيض بها.

 فى صدر حى الجمالية، يقبع مسجد سيدنا الإمام الحسين (ع)، شامخًا بأعمدته الحجرية يشرف من علو على قاهرة المعز، كوالٍ يراقب مريديه عن كثب، ينسلون من كل حدب وصوب قاصدين التبرك بمحبته، فى هيبة ألبسها عليه نسب أهل بيت النبي، عطرته ببعض من البردة الشريفة وأثر  لصحابته، فتركت القلوب التى أثقلها الشوق تهوى إليه.

يفتح مشهد الحسين أبوابه على مصراعيها أمام الوافدين، كاشفًا عن صحن فسيح تتقدمه عتبات رخامية طمستها كثرة الزيارات من صدق العزم وطول الرجاء، تدلى من قبته قناديل زجاجية مزينة بزخارف إسلامية، فتسبغ على المشهد روحانية لم تزدها القرون الثمانية المنصرمة إلا بهاءً.

تصدح أروقته بتلاوة آيات الذكر الحكيم والتواشيح قبيل إقامة كل صلاة، وتتعالى من مئذنته ذات الطراز العثمانى ابتهالات تدنى القلب، يتردد صداها بين أعمدته الرخامية، فتخشع الأصوات إلا همسًا، هالة من الحسن سبغت «الحسين»، وجعلته قِبلة الصلاة الأثيرة لدى قاطنى الحي.

يزده ميل ضلعه الأيمن استقامة، فيقف «الحسين(ع)»شاهدًا على ما تحول إليه اليوم من بقعة طاهرة يذكر فيها اسم الله إلى ساحة للتجارة والمساومة تعج بضجيج الباعة ومساومة الزبائن، يحتضنها على امتداد البصر عبق العطور الشرقية من خان الخليلى يمينًا، وتهل عليه النسائم الوافدة من رحاب الجامع الأزهر يسارًا.

تقودك أمواج الأفواج المتلاطمة فى جولة بين شواهد جمال وروعة تصميم ومعمار الحى الزاخر بأثر الفاتحين الأولين، تتنافس عبره بقايا الفاطميين مع ثلة مما ترك والأيوبيين، وما تبعهم من المماليك، يتباهى كل عهد بجودة تركته ويظل المنتصر الوحيد هم قاصديه.

زوار «الحسين» ومريدوه:

ومن علو خمسة طوابق ببناية متهالكة يطل مقهى صاخب، على باحة «الحسين»، الغارقة بالمارة فى ليالى رمضان، تتصاعد منه أصوات الموسيقى الشرقية، التى تصدح بها حناجر فى حاجة لمزيد من التهذيب، منغمة بألحان لا تخفى ركاكتها، يرجوها محبو الطرب من الخليجيين الذين يتناثرون بأريحية على مقاهى المنطقة، تكشف عنهم لكنتهم الممدودة والمدغمة ومحاولاتهم مناورة الباعة ومساومتهم على اقتناء أحد التذكارات الأثرية بسعر زهيد، بإيعاز من نسائهن المتلفحات بالأسود، تكشفن أعينهن المكحلة بتكلف عن هويتهن.

فيما تفصح بشرة الغربيين البيضاء المشربة بحمرة، والتى لفحتها أشعة شمس القاهرة الثاقبة، عن أصلهم الأوروبي، فيما يبدو عليهم التململ بينما يشقون طريقهم وسط الزحام والأعين النهمة فيهم من كل مكان، يقودهم مرشد سياحي، ترتفع نبرته كلما أتى على سرد قصص أبطال ومحاربين مروا من هنا، حكايات طواها الزمن ولم يبق منها سوى آثار جامدة، فيطغى بصوته على حفيف عباءات الطلبة الأزهريين من حاملى الكتب ذوى المظهر المتحفظ غير

المألوف حاليًا، ونداءات «الحنانات»، اللواتى يتناثرن على قارعة الطريق، تعرفهن ببشرتهن التى لوحتها الشمس.

التذكارات تتنافس على الفوز بالزبائن:

لم تفلح الأجواء الرمضانية الطاغية فى محو الأثر الفرعونى الأصيل الذى يتخذ مكانه فى صدر أوجه متاجر التذكارت، لا تكاد تخلو منه المحال، كلحن نشاز يعزلك عن الأجواء المحيطة، ويراهن به الباعة على هوى الزوار من عشاق التاريخ المصري، وغيرهم من راغبى اقتناء غير المألوف من الهدايا والتحف، وسط أكوام من العباءات السيناوية التى تزخرف فتارين العرض، وأزياء الراقصات الشرقيات التى تتهافت عليها السائحات العرب، التى لا تكتمل هيئتها بدون العباءات اللف المصرية والحلى من القلائد والخلاخيل، مع البراقع والطرابيش للرجال.

وهذا العام، وجدت عرائس الماريونيت لنفسها فسحة بين متاجر الحي، وزبائنه، تتدلى من أسقف أبواب المحال، كأنما دبت فيها الحياة، تسترق الأنظار للوجوه المارة المتلفتة بعينين تملؤهما الفضول وسط الطوفان المنسل مع رفع أذان المغرب وحتى الساعات الأولى من الصباح.

«قهوة الفيشاوي»:

لوحة عتيقة تحمل حروفًا لم ينل منها غبار السنين، أضفى إليها زوارها من المثقفين والكتاب هيبة وصيتًا مدويًا، أركان منزوية ظلت شاهدة على رواد رحلوا، فلم يستطع الثرى محو آثارهم، لايزال يتلمس مريدوهم اليسير من خلفائهم وتابعيهم من شباب الكتاب والصحفيين الذين يتناثرون بين الحين والآخر على طاولاتها، فى سجالات لم تطفئ روحانية الشهر الكريم من حموتها.

واليوم تعج بالجلبة، صرير الكراسى والطاولات التى تتحرك فى كل مكان لإفساح مجال للوافدين الجدد، يختلط مع كركرة الشيشة، وأزيز الزجاج الذى يدوى عاليًا، معلنًا وصول المزيد من أدوار الشاى والقهوة على المناضد.

يصدح «وليد»، العواد الخمسينى بالغناء من على إحدى الطاولات، يخفت الضجيج لينصت الزوار لارتعاشات أوتار عوده العتيق كلما همت ريشته بمباغة أحدها فجاءة، فتتقافز أنامله عليه جيئة وذهابا، مثيرا حوارًا غامضًا بين اهتزازات عوده ودقات قرع طبلة «محمد الشاعر» على شجن مقام النهاوند، فى رائعة بليغ حمدي، التى تصطحبك إلى عالم من «ألف ليلة وليلة»، فتتمايل الرؤوس من وجد العتاب والشوق للوصل، قبل أن تشق موجات التصفيق الهواء فى حماس.

 120