مدرسة رمضان
التوبة
التوبة من الأمور المهمة والصعبة، وهي عبارة عن الرجوع من وحول المادة وظلمانيتها إلى نور النفس وروحانيتها التي كانت قد حجبتها الذنوب وغطتها غشاوة من المعاصي.
عندما يولد الإنسان تكون نفسه خالية من كل أنواع الكمال والجمال والنور والبهجة، كما أنها خالية من أضداد هذه الصفات المذكورة الأربعة فكأنها صفحة نقية خالية لم يُكتب فيها شيء ولكنها مستعدة لنيل أي صفة من الصفات فيمكن أن يملأ الإنسان هذه الصفحة بما يشاء، صفات رفيعة أو وضيعة.
ولكن فطرة الإنسان التي ترسم توجهه الأولي عجنت على الاستقامة ولها نورها الذاتي، وعندما يبدأ الإنسان بارتكاب المعاصي والسيئات يبدأ الظلام والسواد بالظهور في صفحة القلب هذه، فكلما ازدادت الذنوب والمعاصي كلما اتسعت رقعة السواد والظلامإلى أن تحتل القلب كله وتنطفئ نور الفطرة التي أودعها الله تعالى فيه ويبلغ مرتبة الشقاء الأبدي.
ولكن إذا استيقظ الإنسان قبل مرحلة الشقاء الأبدي ثم اجتاز منزل اليقظة ودخل على منزل التوبة مستوفياً شروطها التي سيأتي ذكرها فسيزول هذا الظلام من نفسه وسيعود إلى نور الفطرة.
أركان التوبة
هناك أركان وشرائط لا يمكن أن تكون توبة الإنسان صحيحة ومقبولة إذا لم تتوفر فيها هذه الشروط والأركان، وسنذكر هنا أهمها:
1- الشعور بالندم القلبي على ما ارتكبه من ذنوب ومعاصي، وعلى تقصيره في أداء التكاليف الشرعية، ويعمل على تقوية الندامة في قلبه ويضرم النار فيه على غرار ﴿نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَة﴾(الهمزة:6). فتحترق بنار الندامة هذه جميع المعاصي وتزول كدورة القلب وصدئه. وليعلم أنه إن لم يحرق قلبه بنار الندم التي هي باب من أبواب الجنة، فعليه أن يستقبل في ذلك العالم النار العاتية حيث ستفتح في وجهه أبواب جهنم!.
2- العزم على عدم العودة إلى الذنوب نهائياً.
تذكير النفس
لتحقيق هذين الركنين يجب على الإنسان أن يتذكر دائماً تأثير معاصيه في روحه، وقد ذكرت الروايات أن المعصية تحدث نقطة سوداء في قلب الإنسان وتأخذ هذه النقطة بالتوسع وتغطية القلب حتى يصل إلى مرحلة الشقاوة الأبدية التي لا رجعة فيها!
وتذكر عواقب المعاصي في عالم البرزخ ويوم القيامة كما ورد في الروايات الشرعية والأدلة العقلية، فإن للمعاصي في عالم البرزخ والقيامة صوراً تتناسب معها، تملك الإرادة والشعور، ويكون شغلها الشاغل تعذيب الإنسان المذنب والإساءة إليه! بل إن نار جهنم أيضاً تحرق الإنسان وتعذبه عن شعور وإرادة ووعي! ﴿هَلْ مِن مَّزِيدٍ﴾(ق:30). فإذا استطاع من خلال ذلك تحقيق ركني التوبة هذين يتيسر أمر سلوكه طريق الآخرة، وتغمره التوفيقات الإلهية ليصبح مصداقاً لقوله تعالى: ﴿إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ﴾(البقرة:222)، ومصداقاً لرواية الإمام الصادق عليه السلام التي ذكرناها في بداية الدرس.
سهولة التوبة لولا الوسوسة
وعليك أن لا تيأس من رحمة الله ولطفه ولا تسمح للشيطان والنفس الأمارة بالهيمنة والوسوسة في قلبك،فيصوران التوبة أمراً شاقاً وصعباً ويصرفانك عنها، حتى وإن كانت الذنوب والتقصيرات كثيرة وجسيمة، فإن الله تعالى يسهل عليك الطريق، ويأخذ بيدك إن بدأت السير ولو كانت بدايتك بخطوات قليلة حسب استطاعتك، واعلم أن اليأس من رحمة الله تعالى من أعظم الذنوب.
ما هو المطلوب في التوبة
ليس المطلوب في التوبة بدايةً الحصول على مراتب الكمال التي ذكرناها، فهي من متممات التوبة ولكنها قد تصعب على البعض، فيظن أن عملية التوبة أمر شاق، فيعرض عنها ويتركها! أو يقع في موضوع التسويف والتأجيل حتى يكتب من الأشقياء!
إن كل خطوة مهما كانت صغيرة في طريق السلوك إلى الآخرة هي أمر مطلوب ومحبوب عند الله سبحانه وتعالى، وعندما يضع الإنسان قدمه على الطريق فإن الله سيأخذ بيده ويسهل له الأمور بعد ذلك. وقارن الأمور الأخروية بالأمور الدنيوية، فإن العقلاء إذا لم يستطيعوا أن يحققوا هدفهم الأعلى والأرفع، فهم يطمحون بالحصول على المرتبة الأقل ولا يستسلمون أبداً.
وأنت أيضاً إذا لم تستطع أن تحقق التوبة الكاملة، فلا تعدل عن التوبة ولا تعرض عنها وحاول أن تحقق المستوى المستطاع منها.
إن صعوبة الطريق يجب أن لا تمنع الإنسان من السير، فإن الهدف مهم وعظيم جداً، وكلما عظم الهدف في عين الإنسان سهلت عليه الطريق وهانت في عينه مهما كانت صعبة، وأي شيء أعظم من النجاة الأبدية والروح والريحان الدائميان؟ وأي بلاء أعظم من الهلاك الدائمي والشقاء السرمدي؟ إن هذه التوبة ستنقل الإنسان من الشقاء الأبدي إلى السعادة المطلقة، فإذا كان الهدف عظيماً إلى هذا المستوى، فلا بأس بالمعاناة والتعب لأيام قليلة.
الاستغفار
إن طرق باب مغفرة الله تعالى واللجوء إلى صفة الغفارية في الله تعالى من الأمور الهامة التي يجب أن يقدم عليها التائب، ويطلب فتح هذا الباب له للحصول على هذا المقام، بلسان مقاله وحاله في السر والعلن وفي الخلوات، والطلب منه تعالى بكل مذلة ومسكنة وتضرع وبكاء أن يستر عليه ذنوبه وآثارها، فإن مقام الغفارية والستارية للذات المقدسة يستدعي ستر العيوب وغفران تبعات الذنوب، فإن الصور المعنوية للإنسان أشبه بالولد الذي يولد له في الدنيا، بلأشد التصاقاً به! وحقيقة التوبة والاستغفار بمثابة قطع كل صلة مع هذا المولود ونفيه.
إن الله سبحانه وتعالى بسبب مغفرته وستره يقطع كل صلة بين هذا الوليد المشؤوم وبين الإنسان، ويحجب عن تلك المعصية كل المخلوقات التي اطلعت عليه من الملائكة، وكتّاب صحائف المعاصي، والزمان والمكان وأعضاء نفس الإنسان وجوارحه، وينسيهم جميعاً تلك المعصية كما أشير إليه في الحديث الشريف "يُنسي ملكيه ما كتبا عليه من الذنوب" ويحتمل أن يكون معنى النسيان هنا هو الوحي لهذه المخلوقات بكتمان المعاصي، والوحي يتحقق بأحد شكلين: إما إصدار الأمر لهذه المخلوقات بعدم الإدلاء بالشهادة، أو رفع الآثار التي تركتها المعاصي على الأعضاء والتي بها تتم الشهادة التكوينية. فمع عدم التوبة يمكن أن يشهد عليه كل عضو بلسان مقاله أو حاله.
اللهم ...اغفر لنا ذنوبنا و ارحمنا وأنت خیر الراحمین .آمین یارب العالمین