اتفاق جنيف ، وبشهادة المراقبين ، ما كان ليرى النور لولا التعامل الجاد والمسؤول لايران لوضع حد لهذه الازمة التي افتعلها الغرب على مدى عشر سنوات ، ظنا منه انه سيتمكن من ثني ايران ودفعها للتخلي ليس فقط عن برنامجها النووي بشكل كامل ، بل عن دورها في المنطقة ، عبر فرض حظر شامل احادي الجانب عليها طال حتى الدواء والاجهزة الطبية.
وزير الخارجية الامريكي جون كيري ، اعترف وفي اكثر من مناسبة لاسيما امام لجنة للكونغرس الامريكي، بعقم سياسة الحظر الذي تفرضه بلاده والغرب ضد ايران، عندما اكد، ان ايران لم تكن تملك سوى 164 جهاز طرد مركزي عندما بدأت امريكا تشديد حظرها ضد طهران ، الا ان هذا العدد وصل بعد بضع سنين الى 19 الف جهاز طرد مركزي.
اما الرئيس الامريكي باراك اوباما فقد ذهب الى أبعد مما ذهب اليه كيري عندما قال وبصراحة أمام المنتدى السنوي لمركز سابان للسياسة في الشرق الأوسط في معهد بروكينغز ، وهو يخاطب المتخوفين من حلفائه في تل ابيب وكذلك اللوبيات الصهيونية في امريكا والصقور في الكونغرس : " لو كان بإمكاننا إيجاد خيار يجعل إيران تفكك حتى آخر مسمار من برنامجها النووي، وتبني إمكانية عدم لجوئها إلى أي برنامج نووي والتخلص هكذا من كل قدراتها العسكرية، لتبنيته .. أعتقد أنه يتوجب علينا أن نكون أكثر واقعية".
اتفاق جنيف كان حصيلة تلاقي إرادة ايرانية ، لم تتزعزع منذ البداية ، لايجاد حل مشرف لبرنامجها النووي السلمي ، مع رؤية امريكية جديدة واقعية ، فرضتها الحقائق على الارض، بعد ان استنفدت واشنطن كل قواها لتغير هذا الواقع ولكن دون جدوى ، وهي بالضبط ما اشار اليها اوباما في كلمة امام مركز سابان.
للاسف الرؤية الامريكية التي التقت مع الارادة الايرانية واخرجتا اتفاق جنيف الى الوجود ، لم تكن مستقرة، اي الرؤية الامريكية ، بالدرجة الكافية ، نظرا لانها رؤية ترى الواقع كما هو وليس كما يريد سكنة البيت الابيض ، اي انها رؤية مفروضة ، ومثل هذه الرؤيا يحاول الناظر من خلالها ان يتمرد عليها او يحاول ان يكذبها، لانها ببساطة تفتقر الى النية الحسنة ، التي تعتبر سر نجاح اي عمل مشترك.
ضعف النوايا الحسنة لدى الجانب الامريكي ازاء اتفاق جنيف كان السبب في ظهور التفسير الامريكي الغريب لمعاهدة حظر الانتشار النووي، عندما انكرت واشنطن اي حق لايران في التخصيب وفقا لهذه المعاهدة، رغم ان مادتها الرابعة تؤكد وبصراحة حق الدول الموقعة على المعاهدة في انتاج الطاقة النووية، والذي يشمل جميع مراحل الانتاج ومنها مرحلة التخصيب.
ان المادة الرابعة لم تكن صعبة ولا مبهمة ، لكنها الرؤية الواقعية المفروضة على الجانب الامريكي، هي التي تتمرد ، واكثر هذا التمرد وضوحا كان القرار الامريكي غير المبرر وغير المسؤول والمنافي لروح اتفاق جنيف ، والمتمثل بوضع 19 شركة وشخصية ايرانية واجنبية على لائحة الحظر الامريكي ، وهو الاجراء الذي كان سينسف الاتفاق من اساسه لولا التزام الجانب الايراني بالمعاهدات والمواثيق الدولية ، وهو التزام هدفه تجنيب المنطقة ، المأزومة بما يكفي بسبب السياسات الغربية ، المزيد من الازمات الجديدة ، حيث استأنفت ايران المفاوضات النووية على مستوى الخبراء مرة اخرى يوم الخميس 19 من كانون الاول ديسمبر مع مجموعة 5+1 في جنيف ، بعد ان سحبت مفاوضيها في 12 كانون الاول / ديسمبر احتجاجا على الاجراء غير المدروس للادارة الامريكية.
لم تستأنف ايران المفاوضات النووية على مستوى الخبراء ، الا بعد ان اعلن نائب وزير الخارجية الايراني عباس عراقجي ان طهران تلقت ضمانات من جانب منسقة السياسة الخارجية في الاتحاد الاوروبي كاترين اشتون ، بان القوى العالمية وخصوصا الولايات المتحدة ستتابع المحادثات بحسن نية وانها جدية بخصوص تطبيق الاتفاق.
هذه المواقف وغيرها الكثير كشفت للعالم اجمع مدى جدية الجانب الايراني ، خلافا لما كان يصوره الاعلام الامريكي والصهيوني بانه الجانب المتمرد دائما ، في مواصلة المفاوضات النووية لبلورة آلية لتطبيق اتفاق جنيف وصياغة اجراءاته ، ولكن اي اتفاق هو صيغة تفاهم بين طرفين، ولا يكفي أن يتحلى طرف واحد فقط بنوايا حسنة دون الاخر ، فمثل هذا التفاهم لن يفضي الى اي نتيجة ، فمن الممكن ترويض شيطان التفاصيل بقوة النوايا الحسنة ، ولكن كيف يمكن ترويض الشيطان اذا كمن في النوايا؟ ، لذا على الادارة الامريكية ، ان تعتاد رؤية الواقع كما هو ، لا كما تريد ، فمثل هذا الرؤية فقط ، تفرض حقائق على الناظر تلزمه بالضرورة ان يتسلح بنوايا، اذا لم تكن حسنة فانها لن تكون سيئة بالمرة ، لمعالجة الازمات ، والتي لن تكون في اي حال من الاحوال في مصلحة احد اذا ما استفحلت.
ماجد حاتمي