العالم - الجزائر
ووجدت السلطة نفسها مخيرة، أكثر من أي وقت مضى، بين أن تغلق ملف معتقلي الرأي لتتخلص من آخر حلقات الحراك، أو تتحمل تبعات عدم الفصل فيه، وأبرزها الإبقاء على فتيل انتفاضة شباط 2019 مشتعلا.
وأتمت السلطات الجزائرية، منذ نحو عام، وتحديدا في 21 أيار الماضي، تاريخِ آخر مسيرة للمعارضة، عملية احتواء تظاهرات الحراك الشعبي بعد أكثر من سنتين على انطلاقه. وعلى رغم نجاحها الأولي في ذلك، إلا أن جزءا كبيرا من الأحزاب والنشطاء المحسوبين على المعارضة، راهنوا على إمكانية بقاء الفتيل مشتعلا، لأسباب قدروا أنها موضوعية، أولها أن الحراك ليس مجرد مسيرات أيام الجمعة والثلاثاء، وإنما هو تعبير عن حالة رفض شعبي لسياسات النظام برمته، وثانيها أن لجوء السلطة إلى تشديد الإجراءات الأمنية والقضائية، عبر الاعتقالات والمحاكمات والإدانات، بدلا من محاولة إقناع المتظاهرين بخريطة طريقة أو برنامج سياسي واضح، حمل بذور فشل في احتواء الحركة الاحتجاجية على المديين المتوسط والبعيد. لكن مع مرور الوقت، ثبت أن نفس السلطة كان أطول مما توقعته المعارضة، فيما جاءت الظروف، وخصوصا تلك التي فرضها تفشي وباء "كورونا"، لتخدم توجهات الأولى. وهكذا، عاد الهدوء إلى الشارع الجزائري، وبالأخص في العاصمة، التي مثل إحكام السيطرة عليها التحدي الأهم بالنسبة إلى السلطة، كونها الأكثر تأثيرا إعلاميا وسياسيا.
أكثر من ذلك، قلت، تدريجيا، أصوات المعارضين في القنوات الحكومية والخاصة، وجف، أو كاد، حبر الأقلام المنتقدة في الجرائد وحتى في مواقع التواصل الاجتماعي، خاصة بعد محاكمة عدد من النشطاء بسبب كتابات ومنشورات، واجه أصحابها تهما تنوعت ما بين الإضرار بالمصلحة الوطنية، والمساس بالوحدة الوطنية، والتحريض على التجمهر غير المسلح وغيرها. وبدا، والحال هذه، أن السلطة تمكنت، بالفعل، من كتم صوت الحراك الذي ظل ناشطا حتى ما بعد تنحي الرئيس السابق عبد العزيز بوتفليقة وانتخاب الرئيس عبد المجيد تبون، والذي اعتبره جزء من المعارضة مجرد تبادل للأدوار في أعلى هرم السلطة، وليس تغييرا جذريا يحقق شعار المتظاهرين "يتنحاو قاع" (تنحية جميع المسؤولين). وفي وقت حسب فيه كثيرون أن الجماهير إما اقتنعت بخريطة طريق السلطة، وإما اختارت الحياد ولم تعد مؤمنة بإمكانية التغيير، إلا أن استمرار عمليات التضييق على النشطاء والمعارضين والمدونين وملاحقتهم أمنيا وقضائيا، عاد وأعطى نفسا جديدا للحراك، مع ارتفاع الأصوات المنادية بالإفراج عن هؤلاء، واستعادة منظمات حقوقية في الداخل والخارج نشاطها، بما جعل متابعين يتساءلون عما إذا كانت السلطة تنفخ في رماد الحراك الشعبي ليشتعل. وغذى الإبقاء على قضية معتقلي الرأي مفتوحا، "نظرية" أطراف في المعارضة عن وجود انقسامات في أعلى الهرم بين "لوبيات" الحكم، بشكل يجعل طرفا يدفع إلى الاحتقان، وآخر إلى التهدئة. ومن بين آثار ذلك أيضا، ظهور السلطة في صورة الطرف الأضعف، الذي يخشى على بقائه من مدونين على مواقع التوصل الاجتماعي، لا يبلغ عدد متابعي بعضهم المئة شخص.
وعادت إلى المشهد السياسي في الجزائر، قضية معتقلي الحراك الشعبي، بعد حادثة وفاة الناشط حكيم دبازي (53 سنة، أب لثلاثة أطفال) في 24 نيسان الحالي في سجن القليعة، في ظروف لم يكشف عنها من قبل السلطات الرسمية. واعتقل دبازي بسبب منشورات معارضة على حساباته على مواقع التواصل، وذلك بتاريخ 22 شباط الماضي (الذكرى الثالثة للحراك الشعبي)، حيث اقتيد إلى محكمة تيبازة، التي أمرت بإيداعه الحبس المؤقت. وأوضح الناشط السياسي، أحد أبرز وجوه الحراك، كريم طابو، أن دبازي توفي إثر سكتة قلبية بسبب ضعف شديد في الجهاز التنفسي، بحسب ما أبلغته به أسرته، معتبرا أن "السلطات هي المسؤولة الوحيدة عن وفاته". وفجرت حادثة دبازي العديد من ردود الفعل المنتقِدة، والتي دانت إيداع النشطاء والمعارضين السجن المؤقت الذي يفترض، بحسبها، "أن يكون إجراء استثنائيا"، مطالبة بـ"فتح تحقيق مستعجل وحيادي ومعمق في ملابسات الوفاة"، وإشراك ممثلين عن "هيئة الدفاع عن معتقلي الرأي" فيه، على أن تعلن نتائجه للرأي العام، وتطبق العدالة في حق من تثبت مسؤوليته. كما دعت الحكومة إلى الإفراج عن معتقلي الرأي الذين يقارب عددهم 300 معتقل.
وشددت "الرابطة الجزائرية لحقوق الإنسان"، في بيان، على أن "السلطات القضائية مطالبة بكشف ملابسات قضية وفاة الناشط الحراكي، بإبلاغ الرأي العام بكل التفاصيل، وسبب هذا الاختفاء المأساوي"، فيما أشارت "الجبهة ضد القمع ومن أجل الحريات"، في بيان، إلى أن قضية دبازي "أعادت طرح قضية المعتقلين السياسيين ومعتقلي الرأي في الجزائر، وكذلك ظروف حبسهم والتعسف في استعمال الحبس المؤقت". وأكدت أن "تعميم الحبس المؤقت يعد إجراء غير قانوني ولا مبرر"، مذكرة بحوادث مشابهة لـ"وفيات سياسية في السجون الجزائرية". في المقابل، لم يصدر حتى الساعة أي بيان عن السلطات المختصة حول ملابسات وفاة دبازي، ولا ما إذا جرى فتح تحقيق في الحادث. والجدير ذكره، هنا، أن موقف الحكومة الجزائرية من قضية معتقلي الحراك الشعبي يعد ملتبسا؛ إذ ينفي الخطاب الرسمي نفيا قاطعا وجود أي معتقل رأي في السجون، لكن السلطات أعلنت، في ثلاث مناسبات، تدابير عفو عن معتقلي الحراك، كان آخرها في 2 نيسان الجاري، بالإفراج عن حوالي 70 سجينا، وقبله الإفراج عن معتقلين في مناسبتين، الأولى في 2 كانون الثاني 2020، والثانية في 19 شباط 2021.
أصيل منصور، جريدة الأخبار