العالم- السعودية
نشرح أكثر ونقول إن الرئيس بايدن توعد أثناء حملته الانتخابية بأن جميع المسؤولين السعوديين المتورطين في اغتيال الصحافي جمال خاشقجي، وقتل أطفال اليمن بدفع ثمن كبير، وأن يصبحوا منبوذين، ويعتقد بايدن أن الأمير محمد بن سلمان، ولي العهد، هو الذي أصدر الأوامر بقتل الخاشقجي، وفي الإطار نفسه أكدت السيدة أفريل هاينز مديرة المخابرات الأمريكية المركزية الجديدة، أن إدارتها ستنشر تقريرا سريا مدعوما بالصور والتسجيلات حول تفاصيل عملية الاغتيال هذه التي كانت القنصلية السعودية في إسطنبول مسرحها.
***
الترجمة العملية لهذه التعهدات بدأ بسرعة قياسية، وبعد أيام معدودة من تولي الرئيس بايدن السلطة قبل ثلاثة أسابيع فقط، في عجلة من أمره جمد صفقة أسلحة إلى الدول الخليجية تبلغ قيمتها 36.5 مليار دولار من ضمنها 50 طائرة حربية من نوع “إف 35” المتطورة للإمارات، و7500 صاروخ مسير دقيق للمملكة العربية السعودية، بالإضافة إلى حزمة من الذخائر والمعدات الأمريكية “الذكية”.
الخطوة الأهم واللافتة في رأينا إعلان أنتوني بلينكن، وزير الخارجية الجديد، رفع حركة “انصار الله” من قائمة الإرهاب الأمريكية اعتبارا من بعد غد الاثنين، ووقف الدعم الأمريكي العسكري والدبلوماسي للحرب السعودية في اليمن التي يراها الرئيس بايدن بأنها كارثة إنسانية أدت إلى مقتل 110 آلاف يمني، ونشر المجاعات والأوبئة، واعتماد 80 بالمئة من الشعب اليمني (30 مليونا) على المساعدات الإنسانية.
اللوبي التقدمي واليساري الداعم للديمقراطيين في الولايات المتحدة وأوروبا هو الذي يضغط بقوة على إدارة الرئيس بايدن لوقف الحرب في اليمن، والإيفاء بوعود بتبني ملفات انتهاك حقوق الإنسان في السعودية ودول خليجية وعربية أخرى، مضافا إلى ذلك أن الرئيس بايدن لا يمكن أن ينسى الإهانات السعودية التي لحقت برئيسه باراك أوباما بعد توقيع الاتفاق النووي مع إيران، والتهجم عليه بألفاظ عنصرية غير لائقة.
العلاقات السعودية مع الإدارات الديمقراطية الأمريكية لم تكن جيدة على الإطلاق، حتى أن الأمير بندر بن سلطان سفير المملكة الأسبق في واشنطن لأكثر من عشرين عاما عانى كثيرا من الإهمال والتهميش من هذه الإدارات، وهو الذي علم بالحرب الثانية على العراق وموعدها قبل كولن باول، وزير الخارجية الأمريكي في وقتها، وكان صاحب قرار في واشنطن في زمن الرئيسين بوش الأب والابن، وهناك نظرية تآمرية بدأت تتردد فصولها في واشنطن وبعض العواصم الأوروبية تقول إن الرئيس أوباما شجع القيادة السعودية على غزو اليمن في آذار (مارس) عام 2015، ليس لامتصاص غضبهم بسبب توقيعه للاتفاق النووي مع إيران مثلما كان سائدا في حينها، وإنما لتوريطهم في هذه الحرب التي كان يعلم جيدا أنهم لن يخرجوا منها فائزين، تماما مثلما شجعت إدارة جورج بوش الاب ، صدام على غزو الكويت، وليس أدل على ذلك دعمه، أي أوباما، لثورات الربيع العربي، ومطالبته الرئيس المصري حسني مبارك حليف الرياض الأول، بالتنحي عن الحكم.
مسلسل الصدام بين السعودية وإدارة الرئيس بايدن بدأ مبكرا، وحلقته الأولى الإصرار على وقف الحرب في اليمن، وما زال من غير المعروف كيف ستكون وقائع حلقاته المقبلة، ولعل إقدام السلطات السعودية على الإفراج عن الناشطين لجين الهذلول، ونوف عبد العزيز إلى جانب مواطنين سعوديين معتقلين منذ سنوات ويحملان الجنسية الأمريكية ضربة استباقية لامتصاص غضب الإدارة الجديدة، ومحاولة إبطال بعض ذرائعها، وتخفيف الحملات الإعلامية لأعدائها وما أكثرهم في ميدان منظمات حقوق الإنسان والوسائل الإعلامية، ويكفي “الواشنطن بوست” التي كان خاشقجي أحد كتابها، وتريد الثأر لمقتله بكل الطرق والوسائل.
الإفراج عن الهذلول خطوة جيدة دون أدنى شك، ولكنها ليست كافية بالنظر إلى ازدحام المعتقلات العربية، والسعودية خاصة، بمئات، إن لم يكن آلاف المعتقلين بتهم “مفبركة” في معظمها، وغياب كلي للقضاء العادل.
***
وقف مبيعات صفقات الأسلحة الأمريكية للسعودية، وفي هذا التوقيت الذي ترجح فيه الكفة لصالح أعدائها في اليمن، وانخراط إدارة بايدن الوشيك في مفاوضات للعودة إلى الاتفاق النووي، سيترتب عليها نتائج استراتيجية خطيرة بالنسبة إلى المملكة العربية السعودية، ويكفي أن تجمد إدارة بايدن صفقة الصواريخ الدقيقة، وعقود الصيانة للطائرات الحربية السعودية من طرازي “إف 16” و”إف 15″، الأمر الذي سيؤدي إلى خروج نصف سلاح الجو السعودي الأقوى في المنطقة من الخدمة باعتبارها العمود الفقري للقوة السعودية الضاربة في الجزيرة العربية والمنطقة بأسْرها.
من الأخطاء الكبرى للقيادة السعودية إدارة ظهرها للقضايا العربية والإسلامية، والرهان على بنيامين نتنياهو كحليف بديل، وبوليصة تأمين يمكن أن تكون فاعلة جدا لتذليل أي صعوبات متوقعة مع الإدارات الأمريكية، ولكن هذا الرهان كان خاطئا مثله مثل الرهان على ترامب وصهره، فنتنياهو هو الذي بات يحتاج إلى وسيط مع الإدارة الأمريكية الجديدة، وربما لن يكون في السلطة بعد ستة أسابيع.. والله أعلم.
*عبد الباري عطوان - راي اليوم