العالم - سوريا
قَصف المِدفعيّة التركيّة للمرّات والحَواجِز التي كان من المُفتَرض أن تَمُر عبرها القوّات السوريّة إلى عِفرين يُوحي بحالةٍ من الغَضب التركي تُجاه هذهِ الخُطوة، وتَحذيرٍ من احتمالِ الصِّدام مَعها، وهي رسالة فهمت مَضمونها الحُكومة السوريّة التي بادَرت بتأجيل إرسال هذهِ القوّات، ولكنّه تأجيلٍ مُؤقّت في جَميع الأحوال، وجاء نتيجة وساطاتٍ عِدّة، إيرانيّة وروسيّة، ولن نُفاجَأ إذا كانَ ليومٍ واحِد فقط.
الحُكومة السوريّة تَصرّفت بأعصابٍ بارِدة وضَبط نفس تُجاه التدخّل العَسكري التركي في عِفرين، وانْتظرت حتى يَصْرُخ أحد الطَّرفين أو كِلاهما، طالِبًا النجدة، الأتراك لتأخر الحَسم وتزايد أعداد الخسائِر الماديّة والبشريّة، والأكراد بسبب قوّة وضخامة أعداد وتَسليح الطرف المُهاجِم، أي التركي، والخُذلان الأمريكي، وجاءت الصَّرخة من الطَّرفين، وإن كانت الأُمور نِسبيّة.
فلا مُقارنة بين تركيا، الدولة الإقليميّة العُظمى وجيشها الجرّار، وبين وحدات حِماية الشعب الكُرديّة، التي لا تَزيد عن كَونِها ميليشيا مَحليّة، ولكن طبيعة الحُروب تَغيّرت، وهُناك مَثل يقول أن البَعوضة تُدمِي مُقْلَةِ الأسد.
***
الأكراد اعْترفوا أخيرًا، وبعد تَلكؤ طال، وخُذلانٍ أمريكي، أنّهم سوريون، وطالبوا دَوْلتهم السوريّة بالتدخّل لحِمايتهم من “الغَزو” التركي، وكانَ من الطَّبيعي أن تتجاوب القِيادة في دِمشق لنَداء الاستغاثة هذا لضَرب عَصفورين بحَجر واحد، والمُوافِقة على إرسال القوّات السوريّة و”المُقاومة الشعبيّة” إلى عِفرين، الأوّل: استعادة السيادة على هذهِ المدينة (عِفرين)، والثاني: إفشال المَشروع التركي في إقامة مِنطقة عازِلة بمَساحة ثلاثين كيلومتر مُربّع، وإعادة تَوطين 3.5 مليون لاجِئ سوري فيها، ويَبدو أن تَحقيق هذهِ الأهداف باتَ مُمكنًا ووَشيكًا.
السيد جاويش أوغلو، وزير الخارجيّة التركي، اعْترض بشَكلٍ “مُبطّن” على أيِّ دُخول للجيش العَربي السوري و”المِيليشيات” المُوالية له إلى عِفرين، إلا إذا كان هذا الدُّخول مَشروطًا بطَرد مُقاتِلي حزب العُمّال الكُردستاني ووحدات حِماية الشعب منها، وإلا فإنّ عمليّة “غُضن الزيتون” ستَستمر، مِثلما قال في المُؤتمر الصحافي الذي عَقده مع نَظيره الأُردني في عمّان اليوم.
شُروط السيد اوغلو قد تَكون مُتأخّرة أولاً، وفي غَير مَكانها ثانيًا، وغير مَقبولة للجانِب السوري ثالثًا، فقد نَسِي السيد أوغلو أن مدينة عِفرين سوريّة، وأن القوّات السوريّة عندما تَدخلها فإنّها ليست غازِية، أو مُحتلّة، وتُلبّي نِداء نَجدة من مُواطِنين سوريين وإن كانوا أكرادًا، فهل يقبل السيد أوغلو أن يَفرِض أحد على حُكومَتِه شُروطًا لدُخول جَيشها ديار بكر مثلاً، أو أي مدينة تركيّة أُخرى؟
والشيء نفسه يُقال أيضًا عن الاتهامات التركيّة للحُكومة السوريّة بتَسليح قوّات حِماية الشعب الكُرديّة، وتَسهيل وصول إمدادات عسكريّة وبشريّة إليها من عَين العرب ومَنبج، بل والحَسكة أيضًا إلى عِفرين للمُشاركة في التصدّي للقوّات التركيّة، فالرَّد السوري الرسمي قد يَكون جاهِزًا على هذهِ الاتّهامات، ويَكفي تذكير القِيادة التركيّة بأنّها تَدعم فصائِل سوريّة مُسلّحة مُنذ سبع سنوات لتَحقيق أهدافها في إسقاط النظام، فالطَّرفان في حالةِ حرب على الأرض السوريّة، وكُل طَرف يَستخدم كُل أوراقه فيها، وهذا أمرٌ مُتوقّع على أيِّ حال.
القِيادة السوريّة وجدت في مأزَق الأتراك في عِفرين فُرصةً لها لفَتح قنوات حِوار مع إدارة الحُكم الذاتي في المدينة ومُحاولة إبعادها عن حَليفها الأمريكي الذي خَذلها وتخلّى عنها، و”إدماء” الأنف التركي بطَريقةٍ أو بأُخرى، وبِما يَدفعه إلى “كَفْ الأذى” وفَتح حِوارٍ مع دِمشق للتوصّل إلى حَل للوضع في إدلب على طريقة نَظيره في حلب، وضَمّها إلى مناطِق خفض التوتّر، ونَتّفِق مع الآراء التي تَقول أن دُخول قوات الجيش السوري إلى عِفرين قد تَكون مَخرجًا للجميع، بِما في ذلك السُّلطات التركيّة.
الرُّوس الذين نَفوا القِيام بأيِّ وساطةٍ بين قوّات الحِماية الكرديّة والحُكومة السوريّة للتوصّل إلى اتّفاقِ دُخول القوّات السوريّة إلى عِفرين، بَدأوا يَتحدّثون عن إقامة مِنطَقةٍ خامِسة لتَخفيف التوتّر في المَدينة، وهذا يَعني أنّهم أعْطوا الضُّوء الأخضر، وبطَريقةٍ مُوارِبة، لدُخول القوّات السوريّةِ إليها.
الجيش السوري يَخوض حاليًّا مَعارِك على ثَلاث جبهات: الغوطة الشرقيّة، عِفرين، وإدلب، ويُريد الحَسم فيها في غُضون الأشهر المُقبِلة تمهيدًا لخَوض المَعركة الكُبرى شَرق الفُرات ضِد القوّات الأمريكيّة وحُلفائها، وقد تَخدِم هذهِ الخُطوة الرئيس أردوغان وحُكومَتِه على المَديين المُتوسّط والبَعيد.
السوريون يَمْلِكون خِبرةً عَميقة في هذا المِضمار، فقد لَعِبوا الدَّور الأبْرز في استنزاف قوّات الاحتلال الأمريكيّة وهَزيمتها في العِراق بعد احتلال عام 2003 من خِلال دَعم المُقاومة، ولا نَستبعد أن يكونوا جهّزوا “سيناريو” مُماثِل للاحتلال الأمريكي في شمال سورية وربّما في العِراق أيضًا، وربّما تكون فُرصْ نجاح هذا السِّيناريو أكبر إذا كان بالتَّنسيق مع تركيا.
***
الرئيس رجب طيب أردوغان أضاع فُرصةً ذهبيّةً بِرَفضِه وساطات روسيّة للتنسيق مع دِمشق لتَعزيز الاستقرار في سورية، وتَوجيه البُوصلة نحو المَشروع الأمريكي الذي يُريد إقامةَ كيانٍ كُرديٍّ مُستقل في شَمال سورية، وربّما لو قَبِل هذهِ الوساطة مُبكرًا لما وَجد نَفسه غارِقًا في مأزق عِفرين وتَبعاتِه الخَطيرة المُتوقّعة، وانعكاساتِها على تركيا ووِحدتها الترابيّة أمْنِها واسْتقرارِها.
الصُّحف التركيّة مَهّدت لهذهِ الخُطوة عندما ألقتْ بمَسؤوليّة فَشل سِياسة بِلاده في إسقاط حُكم الرئيس الأسد على عاتِق السيد أحمد دواوود أوغلو، رئيس الوزراء السَّابِق، وكان بِمَقدور الرئيس أردوغان أن يُقدِّمه “كَبش فِداء” لتَبرير أيَّ مُراجعاتٍ لهذهِ السِّياسة.
مُؤتمر إسطنبول الثُّلاثي الذي سَيُعقَد في الأيّام المُقبِلة في حُضور الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، والإيراني حسن روحاني، والرئيس المُضيف أردوغان، قد يُشكِّل فُرصَةً لهذهِ المُراجعات، خاصَّةً أن مُحاولات إصلاح العلاقة التركيّة الأمريكيّة التي جَرتْ أثناء زِيارة ريكس تيلرسون، وزير الخارجيّة الأمريكي لأنقرة قبل أيّام لم تُحقِّق أيّ نتائجٍ إيجابيّة.
الرئيس أردوغان يُواجِه حَرب استنزاف في عِفرين ربّما تَمتد إلى جرابلس والباب أيضًا في شَمال غَرب سورية، وتحالفًا كُرديًّا سوريًّا رَسميًّا في طَوْر الإنشاء، وانتخابات رئاسيّة وتَشريعيّة في العامِ المُقبِل، وربّما باتَ الوَقت مُناسِبًا “لاستدارة ما” تَبدو ضروريّة، وربّما حَتميّة.
فهل يَفْعَلها أردوغان “البراغماتي”؟ لا نَسْتَبعِد ذلك.. والله أعلم.