وكان حصل التفاوض على هذا الامر خلال قمة العشرين في الصين، حيث عرض الرئيس باراك اوباما على اردوغان فكرة المشاركة العسكرية لانتزاع الرقة من "داعش"، وعلى رغم توافق الطرفين مبدئياً على هذا الامر وإحالة دراسة خطواته التنفيذية إلى لجان عسكرية تركية اميركية مختصة، فإنّ تبايناً سياسياً نشَب بينهما حول طبيعة القوة التي ستهاجم عاصمة "داعش".
فقد رفض اردوغان أن تكون "وحدات حماية الشعب" الكردية هي القوة الاساسية في العملية، بينما عبّر اوباما عن رغبته في إجراء عمل مشترك بين الجيش التركي و"قوات سوريا الديموقراطية" (نواتها الصلبة اكراد) لإنجاز "تحرير" الرقة، على رغم خلافاتهما.
في الايام الاخيرة، سمحت الرقابة العسكرية الاميركية بنقل قرار استراتيجي لأوباما كانت قد اتخذته منذ نحو تسعة اشهر، من نطاق كونه سرياً ومن اسرار الدولة العليا، الى نطاق الإعلان الرسمي عنه. ومفاده أنّ أوباما أصدر أوامره بإنهاء حضور "داعش" في كل من الرقة والموصل، خلال فترة تسبق انتهاء ولايته رسمياً في العشرين من كانون الثاني المقبل. وقد دشّن وزير الدفاع الاميركي أشتون كارتر مرحلة الاعلان عن هذا القرار، حيث أعلن قبل ايام أنّ واشنطن قررت بالتعاون مع تركيا و"قوات سوريا الديموقراطية" التقدم نحو الرقة.
وبإفصاح اميركا عن هدفها الأساس في سوريا، بات واضحاً الآن على نحو أزال أيّ التباس، أنّ اوباما لم يكن هدفه من دعم "تقدم قوات سوريا الديموقراطية" الى منبج قبل شهرين، دعم توجّه الكرد لربط مناطقهم فيما بينها تمهيداً لإعلان كردستان الغربية (السورية)، بل لإخراج "داعش" منها والسيطرة عليها، نظراً لأهمية هذا الإجراء الذي يقطع طرق الإمداد عن "داعش" في الرقة، ضمن استراتيجيته للسيطرة على عاصمة التنظيم في سوريا قبل كانون الثاني المقبل.
كما يتضح الآن ايضاً، وفي المقابل، أنّ أوباما لم يكن هدفه من تغطية عملية "درع الفرات" التركية في جرابلس وريفها، السماح لأنقرة بتحقيق هدفها بإقامة "منطقة امنية" في سوريا، بل توجيه ضربات تمهيدية موجعة لـ"داعش" تغلق في وجهها الحدود التركية، ما يؤدي الى إضعاف استعداداتها للدفاع عن عاصمتها الرقة. وما يقوم به اوباما حالياً هو "دمج النتائج العسكرية لجهدي عملية درع الفرات وتحرير منبج" ضمن سياق واحد، هدفه توظيفهما في خدمة تنفيذ خطة معركة اخراج "داعش" من الرقة في سوريا، واستكمالاً - وأيضاً بالتوازي زمنياً - من الموصل في العراق.
من منظار الادارة الاميركية، إنّ كلاً من سوريا والعراق هما ساحة حرب واحدة ضد "داعش"، والأميركيون يتحدثون عن وحدة مسار الحربين؛ بينما موسكو تركز على نجاح حربها ضد فروع "القاعدة" وأتباعها (كأحرار الشام) في سوريا؛ حيث يختبئ المقاتلون الشيشان وراء هذه اليافطات، وتحظى هذه الأُطر بنوع من التغطية الخارجية تتمثّل بالتباطؤ في إدراجها على اللائحة الدولية للارهاب.
وهذا الاتجاه نفسه تَنحوه - ولو بنسبة أقلّ ظهوراً- الصين الراغبة في تصفية جماعات الايغور (الجهاديين الصينيين) المختبئين في سوريا ضمن أطر خارج "داعش". وتظنّ بكين، وبالقدر نفسه موسكو، أنّ واشنطن قد تجد لاحقاً، مصلحة لها، في أن تعيد تصدير "الارهابيين الشيشان والايغور" الموجودين في سوريا إلى بلدانهم الأصلية لإثارة متاعب داخلية فيها. وعليه، وجد الروس في "خضوع" واشنطن ضمن اتفاق كيري - لافروف، لفكرة مبادلتها "رأس النصرة" بمكاسب أخرى، ربحاً كبيراً لأمنها القومي. كما أنّ الصينيين قرروا أخيراً تدشين مرحلة تنسيق ثنائية مع الدولة السورية لمواجهة إرهابيّي "الايغور" في سوريا.
الرقة: "القطبة الخفية"
وبحسب معلومات متقاطعة، فإنّ تجهيز اوباما لمعركته في الرقة وأيضاً في الموصل، يشكل جوهر الخلفيات التي قادت اميركا للانفتاح على توقيت بناء شراكة روسية أمنية وعسكرية روسية في هذه اللحظة ضد الارهاب في سوريا. وبات واضحاً في هذا السياق أنّ لقرار اوباما الذهاب إلى حسم معركتي الرقة والموصل قبل نهاية ولايته الرسمية، أهدافاً اميركية داخلية اساسية تتصل بتقديم "مَدد انتخابي نوعي" لهيلاري كلينتون في تنافسها على الرئاسة مع دونالد ترامب، ذلك انّ مجرّد مشهد "زرع علم النصر الاميركي" فوق عاصمتي "داعش" في الرقة السورية والموصل العراقية، سيؤدي الى تكوين انطباع لدى الناخب الاميركي بأنّ حزب اوباما الديموقراطي الذي يرشّح كلينتون للرئاسة، حقّق نصراً حاسماً على "داعش".
ويرى مراقبون أنّ نصر اوباما في الرقة والموصل سيترك آثاراً معنوية وسياسية لصالح تدعيم صورته وصورة حزبه، تساوي تلك التي حصّلها من خلال نجاحه في قتل اسامة بن لادن. وبات واضحاً أيضاً انّ كلينتون التي تخشى من تناقص حظوظ فوزها جرّاء استثمار ترامب في ما يُسمّيه الجمهوريون بـ"وهن اوباما في سوريا" في مقابل تصاعد مظاهر "قوة بوتين"، تجد في اتخاذ أوباما إجراء يظهر قوّته في سوريا، بمثابة هدية انتخابية اكثر من مهمة لها.
على أنّ الرئيس الاميركي الساعي لترك بصمات نجاح عميقة له ولحزبه داخل اميركا وخارجها، قبَيل انتهاء ولايته، يدرك أنّ سلاسة الاداء العسكري في معركتي الرقة والموصل تحتاج لتوفير أمور حيوية عدة، أبرزها تفكيك حال العداء القائمة في شمال سوريا بين حليفيه الكردي والتركي، كون مشاركتهما في الهجوم على الرقة، لا توفّر فقط شرطاً اساساً لإنجازه، بل تُبيّن أنّ هذا المكسب الاستراتيجي أمكن تحقيقه تحت سقف حفاظ أوباما على احدى ابرز ثوابته في النزاع السوري المتمثّلة في عدم التورط البرّي الاميركي المباشر فيه؛ اضافة لإثبات صحة نظريته حول إمكانية الحضور الفعّال في سوريا والعراق عبر تطبيق نظرية "القيادة من الخلف".
ويلاحظ في هذا السياق أنّ واشنطن سَعت خلال الأيام الاخيرة لإنشاء خط ساخن لفضّ الخلافات التركية الكردية في سوريا، وفي الوقت نفسه دفعت قبل يومين بوحدات من المارينز للتقدم من "عين عرب" الى مدينة "تل ابيض" لتنشئ على بعد ٢٠٠ متر منها نقطة مراقبة وإدارة عمليات معركة الرقة، ورفعت فوقها العلم الاميركي، ويفترض أن يتواجد فيها قريباً، وتحت إمرة ضبّاط أميركيين، جنرالات من الجيش التركي و"قسد" على السواء.
وليس خافياً أنّ رفع العلم الاميركي فوق نقطة "برج البريد" في قرية المنبطح التي ستكون رأس جسر قيادي في معركة طرد "داعش" من الرقة، له معنى مقصود أميركياً، وهو أنّ النصر المرتقب على "داعش" في الرقة، سيكون له أب واحد هو إدارة اوباما بوصفه الرئيس الديموقراطي. كما أنّ الجهة التي سيسمح لها حصراً باستثمار هذا النصر سياسياً، هي رصيد كلينتون في انتخابات الرئاسة وليس النظام السوري ولا روسيا، ولا حتى تركيا أو الاكراد اللذين سيقتصر دورهما على مشاركتهما كجيش برّي تحت العلم الاميركي في الهجوم.
وضمن هذا السياق، تبدو "هدنة حلب" الذي يُسوّقها اتفاق كيري - لافروف بوصفها مقدّمة لوقف شامل لإطلاق النار في سوريا، وتمهيداً لإبرام شراكة اميركية - روسية حصرية لضرب ارهاب "داعش" و"النصرة" فيها، إنما لديها أيضاً من وجهة نظر ادارة اوباما خلفية أساسية لها أولوية في هذه المرحلة، وتتمثّل في تحقيق رغبتها بتمهيد مسرح عمليات ذهاب اوباما الى الرقة والموصل خلال فترة ربع الساعة الاخير من ولايته الرسمية.
والأولويّة التي يعطيها أوباما لهذا الهدف ضمن كل اتفاقية كيري - لافروف السورية، هي التي تُفسّر لماذا أمَرت الادارة الاميركية بالتخلي- رغماً عن رغبة المستويين الامني والعسكري - عن ورقة ابو محمد الجولاني لمصلحة روسيا في مقابل أن تترك الاخيرة ورقة "داعش" لأوباما وحده. وهو الذي يفسّر لماذا رفض كيري طلب لافروف نشر نص اتفاقهما في سوريا كاملاً، وإقراره في الامم المتحدة، وتفضيل واشنطن إبقاء بنوده الاخرى سرية.
ويَشي هذا التصرف الاميركي بأنّ اوباما يركز في هذه المرحلة على إبرام تفاهمات دائرية مع جميع اللاعبين فوق الساحة السورية، بغية إحراز هدفيه الثمينين: الرقة والموصل، فيما الاهداف الاخرى في الاتفاقية مع روسيا، تستطيع من وجهة نظره الانتظار، ويمكن تركها لفترة رئاسة كلينتون لتحسّن شروط تفاوض اميركا حولها مع موسكو.
قصارى القول انّ هدف اوباما المركزي من اتفاقية لافروف - كيري، هو أن تفيده في هندسة المسرح السوري ليصبح أكثر قابلية لشَنّ معركته في الرقة وكسبها بسرعة، وليس ليصبح الوضع في سوريا أقرب للحل السياسي، ذلك انّ الأمر الأخير متروك لكلينتون لكي تحسّن نقاط ضعف اميركا في الاتفاقية الراهنة، وذلك عبر التفاوض عليها بالأسلوب الاميركي المعروف بـ"النوافذ المفتوحة" (أي التفاوض مجدداً على كيفية تنفيذ كل نقطة في الاتفاقية).
وحينها ستتوافر لكلينتون فرصة لتصحيح النقاط التي تساهَل بها اوباما داخل الاتفاقية وذلك لتسهيل بدء شنّ هجومه على الرقة، ولتحاشي ضغط أنّ الوقت بدأ يضيق أمام فرصته لزرع "علم نصر انتخاب كلينتون" فوق عاصمتي "داعش" في سوريا والعراق.
ناصر شرارة / شام تايمز
109-1