وبخطاب دقيق وملتبس، أعطى الظواهري لـ «فرعه في الشام» («جبهة النصرة») الضوء الأخضر لاتخاذ قرارات مصيرية، غير أن خريطة الطريق التي وضعها لتحقيق ذلك تبدو معقدة لدرجة لا يمكن تطبيقها.
وجاء خطاب الظواهري، الذي صدر أمس، عن مؤسسة «السحاب» وحمل عنوان «انفروا للشام»، في لحظة بالغة الحساسية والتعقيد تمر بها الحرب السورية، سواء سياسياً أو عسكرياً. فالعملية السياسية متعثرة واتفاقات الهدن تفشل الواحدة إثر الأخرى، بينما تعود السخونة إلى جبهات القتال في أكثر من مكان، وسط تصاعد ملحوظ لدور «جبهة النصرة» التي حققت خلال الشهرين الماضيين مكاسب لافتة، جعلت العديد من «فصائل الهدن» تخرج من تحت مظلة التفاهم الروسي- الأميركي وتلتحق بجهود «النصرة» الرامية إلى تفجير الوضع.
ودلالة عنوان الخطاب واضحة، وفيها تلخيص مكثّف للرسالة المتوخاة منه، وهي دعوة صريحة من قبل الظواهري لأتباعه وأنصاره في مختلف أنحاء العالم للالتحاق بجبهة الشام والمشاركة في القتال فيها، وهي دعوةٌ تعني شيئاً واحداً، هو أن تنظيم «القاعدة» يخطط للتصعيد العسكري في سوريا ويحتاج إلى أعداد متزايدة من المقاتلين لتعزيز صفوفه وتقوية جبهاته.
وكانت «السفير» في تقرير سابق قد أشارت إلى أن «جبهة النصرة»، بالتشاور مع قيادتها العامة في خراسان، اتخذت قرار التصعيد. وأشارت إلى أن هذا القرار يهدف في أحد جوانبه إلى تفادي مصير تنظيم «القاعدة في اليمن» الذي اضطر للانسحاب من المكلا وبعض المدن الأخرى نتيجة الانقلاب السعودي عليه. وقد كان الظواهري واضحاً في هذه النقطة، عندما قال إن «واجبنا اليوم هو الدفاع عن الجهاد في الشام ضد المؤامرات التي تحاك له»، مركزاً على دور «دولة آل سعود ربيبة أميركا وبريطانيا» في هذه المؤامرات.
وباتت سوريا ضمن رؤية «القاعدة» بمثابة المسرح الوحيد المتاح لديها لإظهار القوة واستعراض المؤهلات، وربما بمثابة نقطة الانطلاق لإعادة تفعيل دورها على الساحة الدولية، بعد أن سلبها تنظيم «داعش» هذا الدور لسنوات خلت. لذلك لم يكن مستغرباً أن يشير الظواهري في مستهلّ خطابه إلى سوريا باعتبارها «الثورة الشعبية الوحيدة من ثورات الربيع العربي التي انتهجت الطريق الصحيح: طريق الدعوة والجهاد لإقامة الشريعة والخلافة». وشدد على أن من اسماهم «أكابر المجرمين في الدنيا» قد اجتمعوا على «منع قيام دولة مجاهدة في شام الرباط والجهاد». وقراءة كلمات الظواهري بدقة لا تترك مجالاً للشك في معرفة نوعية المشروع الذي يقاتل من أجله في سوريا.
وبعد رسالة «النفير»، شدد الظواهري على ما اعتبرها «قضية حياة أو موت بالنسبة للمجاهدين»، في إشارة منه إلى موضوع الوحدة بين الفصائل. لكن إدراك الظواهري لأهمية موضوع التوحد لم يمنعه من الطعن بالتيارات الإسلامية الأخرى، والتحذير من مشاريعها وقرع جرس الإنذار، لئلا تتكرر بعض تجاربها في بلدان أخرى، مثل مصر والجزائر.
وقراءة ما بين اسطر الخطاب ستجعل من السهل التكهن بطبيعة المشروع الذي يحوز رضا الظواهري. فهو انتقد مشروع جماعة «الإخوان المسلمين» في مصر، ومشروع «الغلاة» سواء السابق في الجزائر في تسعينيات القرن الماضي أو الحالي الذي تمثله «خلافة إبراهيم البدري» (أي أبو بكر البغدادي). كما انتقد المشاريع الإسلامية المدعومة من بعض الدول والتي تهدف إلى «إقامة نظام يتمسح بالإسلام في الشام لكنه يقدم إسلاماً مزيفاً يتوافق مع العلمانية والدولة الوطنية والنعرة القومية». وهذا الانتقاد الأخير يشمل بشكل خاص «جيش الإسلام» و«حركة أحرار الشام».
لذلك لم يبق سوى مشروع واحد يوافق أهواء الظواهري، وهو مشروع «جبهة النصرة». وهو إن لم يقل ذلك صراحة، لكن كل ما في الخطاب يدل عليه، وخصوصاً إشارة الظواهري إلى «طائفة مجاهدة من خيار الأنصار والمهاجرين ثابتة على الحق لا تتزحزح عنه، التفّت حولها الأمة المسلمة في الشام»، والمقصود بذلك من دون أدنى شك «جبهة النصرة».
وسط هذا التمجيد المبطن بمشروع «جبهة النصرة»، والطعن الصريح بالمشاريع الإسلامية الأخرى والتحذير من التجارب السابقة، يغدو من الواضح أن حديث الظواهري عن موضوع «فك الارتباط» لا يتضمن أي جديد، بعكس ما حاول البعض الإيحاء بأنه يشكل ضوءاً أخضر لـ «جبهة النصرة» كي تتخذ القرار الذي يناسب الحالة الشامية. وحتى إذا اجتزأنا العبارة التي قالها الظواهري وأخرجناها من سياق الخطاب فلن نجد فيها ما يشير إلى هذا الضوء الأخضر. وهذه العبارة هي قوله «إذا اختار المسلمون في بلاد الشام حكومة مسلمة وإماماً لهم فإن هذا الاختيار هو اختيار القاعدة».
فكلام الظواهري مشروط باختيار «حكومة إسلامية وإمام لها»، وهذه نقطة خلافية لم تستطع حتى الفصائل الإسلامية من الاتفاق حولها، خصوصاً بعد انطلاق مؤتمر جنيف الذي وضعت التحضيراتُ له قاعدةً راسخة حول «مدنية الدولة السورية المستقبلية». لذلك كان من الطبيعي أن يعتبر الظواهري على رأس المؤامرات التي تحاك للمجاهدين هي «جنيف والرياض وهدنة وقرار مجلس الأمن» في إشارة إلى محادثات جنيف، ومؤتمر الرياض للمعارضة السورية الذي انبثقت عنه «الهيئة العليا للمفاوضات»، واتفاقات الهدن بتفاهم روسي- أميركي، والقرارات الصادرة عن مجلس الأمن حول الأزمة السورية. وهو موقف سبق لزعيم «جبهة النصرة» أبو محمد الجولاني التعبير عنه.
وبالتالي فإن موضوعي «الوحدة بين الفصائل» و «فك الارتباط مع جبهة النصرة» بالنسبة للظواهري يأتيان في إطار مناقض تماماً لإطار العملية السياسية التي تقودها واشنطن وموسكو، وبالتالي فإن السير بهما، أو بأحدهما، يتطلب أولاً وقبل كل شيء التمايز عنها والتبرؤ منها، وهو ما لا تستطيع العديد من الفصائل القيام به إلا إذا قررت التخلي عن ارتباطاتها الإقليمية.
والأهم أن الظواهري كاد أن يحسم الموضوع من خلال طرحه لبعض التساؤلات من قبيل «هل سيرضى أكابر المجرمين (يقصد المجتمع الدولي) عن جبهة النصرة لو فارقت القاعدة، أم سيلزمونها بالجلوس حول المائدة مع القتلة المجرمين، ثم يلزمونها بالإذعان لاتفاقات الذل والمهانة، ثم الرضوخ لحكومات الفساد، ثم الدخول في لعبة الديموقراطية، ثم بعد ذلك يلقون بها في السجن؟». وهذا شبه إقرار بعدم جدوى فك الارتباط، وهو ينطبق مع خطاب «النصرة» الذي كانت تدافع من خلاله طوال الأشهر الماضية عن عدم اتخاذها لهذا القرار.
عبد الله سليمان علي - السفير
114-2