من تدمر إلى البصرة فبغداد والموصل فدجلة والفرات وبردى. كيف لا تسود «داعش» وهي فرّخت في بلاد، معدلات الأمية فيها تسابق معدلات الفقر. وكلاهما متقدم على التنمية، ولا يفسح صدارة، إلا للفساد والمذهبية وكل ما يسهم في تخلفنا. كيف لا، وأمام أعيننا عاما تلو العام، لا نبيع في معارض الكتب، ولا نوزع في المكتبات، إلا كتب التنجيم والفقه والشريعة التي مضى قرون على تأليفها، وتبدلت منذ أزمن ظروف وضعها، ولم يتبدل في متنها حرف واحد، ولا تزال إلى اليوم أصل علوم الشباب من المحيط إلى الخليج ( الفارسي). بعلوم وعلماء من هذا الصنف وعلى هذه الشاكلة، كيف كنا نتوقع أن نصل إلى غير ما وصلنا إليه اليوم.
مشهد الحافلات الناقلة للمسلحين المصابين وأسرهم من القرى السورية المنكوبة، سنية كانت أو شيعية، هو قعر القعر لحالنا المخزي. طوى العام 2015 أيامه على فضيحة سياسية وأخلاقية. نحن نتحمل مسؤوليتها ولو بقينا نتقاذف الاتهامات ونوزع التبريرات ألف عام. تهجير منظم عبر أجهزة استخبارات أربع أو خمس دول، وعبر مطارَي دولتَين هو أكبر من فضيحة. كارثة إنسانية، تفوق بأثرها مذابح الهمج. التهجير، المدخل للتطهير المذهبي، ليس تفصيلاً ميدانياً، بل تأسيس لنظام فصل عنصري لا شبيه له اليوم إلا "اسرائيل".
تعايشنا مع حروب، وجرت بعدها مصالحات، وحصلت مجازر، وجرت بعدها مصالحات. إلا التهجير لا يلتئم جرحه، قرى جبل لبنان أمثولة حية. التهجير المنظم عار، لأنه فرز سكاني مخطط له، وليس فعلاً عشوائيا غريزيا للبقاء. هو فعلة لا انسانية تعود بمرتكبيها والمحرضين عليها إلى إنسان الكهوف، وما قبل التاريخ، أي الانسان بصيغته الهمجية الأولى، قبل أن يتطور إلى كائن مجتمعي.
ما تسببت به «داعش» والعصابات المشابهة لها مع سعي المتآمرين من عرب وغيرهم على الدولتين الأكثر أهلية لمقاومة الورم السرطاني الإسرائيلي بلغا حداً إلغائياً لإنسانية المنطقة التي كانت يوماً مهد الحضارات، ومهبط الديانات، الداعية إلى الله الكلمة والمحبة. المنطقة التي كانت مختبر العالم، كل العالم، لقيمة رسالة التعايش السامية. هنا قعر القعر الذي لا قعر دونه. هنا بداية نهاية «داعش». وبداية نهاية التسويات والتواطؤات الموصلة إلى أنظمة هشة تسمح بتفشي توحش كـ «داعش».
الانتصارات العسكرية الأخيرة في العراق، والتقدم الكبير للجيش السوري في أكثر من منطقة، بداية تحول عسكري تصاعدي سيطبع العام الجديد، ليكون عام نهاية «داعش». هذا التحول ليس بسبب الحشد الدولي في سماء العرب، ولا بسبب عبقريات قادتنا العسكريين، وليس نتاج خططهم التكتيكية والاستراتيجية. السبب ببساطة أن العصابات الارهابية والأنظمة المتحالفة معها عقائدياً ومالياً، والحاضنة لها فكرياً، هي نتاج بيئتنا المتخلفة، المترهلة، الهشة.
عصابات «داعش»، ولو طُعِمت بمن طعمت من أقوام الأرض، ستبقى إبنة هذه البيئة الفاسدة المفسدة، المدمرة لذاتها. وفي حال التنظيم الأصولي سيكون السقوط مدوياً وأسرع مما صعد به. وما جاء بالقتل، بالقتل سيذهب، وسريعاً. التنظيم ينجح كعصابة، ينفجر من الداخل كدولة، كباقي دولنا!
منير الخطيب / السفير