باديء ذي بدء لابد من المرور على الأدلة التي يسوقها الذين يدعون استسلام ايران, وأبرزها ان الإتفاق سيحول دون امتلاك ايران لسلاح نووي. وهو ادعاء صحيح فبنود الإتفاق تحول دون حصول ذلك, الا ان ذلك لا يعتبر هزيمة لإيران ونصرا لمخالفيها, لأن ايران اعلنت مرارا وتكرار ان برنامجها النووي سلمي, كما واعلن قائدها حرمة انتاج اسلحة نووية, وان دخول ايران للمفاوضات لم يكن من اجل تثبيت حقها في إنتاج سلاح نووي, بل كان الهدف هو تثبيت حقها في امتلاك التقنية النووية وفقا لإتفاقية حظر اسلحة الدمار الشامل التي تسمح للدول امتلاك التقنية النووية لأغراض سلمية.
فالإعتراض الغربي على برنامج ايران النووي, لم يكن اعتراضا على انحراف البرنامج لأغراض عسكرية , بقدر ما كان اعتراضا على أصل البرنامج. ومع امضاء هذا الإتفاق, فإن المجتمع الدولي اقرّ اليوم بحق ايران في امتلاك التقنية النووية , بعد ان رفضت تلك الدول و طوال السنوات الماضية الإعتراف بذلك, متذرعة بأن برنامج ايران عسكري, بالرغم من عدم تقديم أي دليل على ذلك وبالرغم من ان الواقع يكذب ذلك, نظرا لأن عمليات تخصيب اليورانيوم ,لا زالت عند حدود متدنية لا تتجاوز نسبة 20 بالمئة, وهي بعيدة عن المستويات العالية للتخصيب اللازمة لإنتاج قنبلة نووية والتي تتجاوز نسبة 70 بالمئة.
هذا من ناحية, ومن ناحية اخرى فإن هذا الإتفاق يشكل اعترافا ضمنيا من الدول الكبرى بأن ايران دولة نووية تمتلك التقنية اللازمة لذلك وان لديها القدرة على انتاج سلاح نووي وبقواها الذاتية لو أرادت ذلك, وهذا يعتبر بحد ذاته نصرا كبيرا لإيران ويعتبر قفزة كبيرة في مسيرة بلد يحرز تقدما وعلى مختلف الصعد, وهو يثبت ان الأمة الإيرانية ليست أقل شأنا من الأمم الكبرى المتطورة, ومن يستطيع الحصول على التقنية النووية, فهو قادر على تحقيق تطور وتقدم في مختلف مجالات الحياة.
واما المبرر الآخر الذي يسوقه هؤلاء, فهو ان ايران عرّضت الشعب الإيراني لمشاكل اقتصادية نتيجة للحظر الإقتصادي المفروض عليها بسبب برنامجها النووي الذي انفقت عليه المليارات بدلا من انفاقها داخل البلاد. وهذا المبرر مردود من عدة جهات, واولها ان الحصار المفروض على ايران ليس جديدا والبرنامج النووي ليس مسببا له, فايران تتعرض لحصار تلو حصار ومنذ انتصار الثورة الإيرانية وهذا الحصار هو حلقة في سلسلسة متواصلة منذ العام 1979, وقد أثبت فشله, فإيران ومع فرض كل حصار تتطور نحو الأفضل, فايران اليوم هي ليست ايران السبعينات, فهي وبرغم الحصار المتعدد أضحت اليوم أعظم قوة إقليمية.
واما من الناحية الإقتصادية فإن التقنية النووية تعتبر مصدر دخل كبير لإيران, وخاصة على صعيد انتاج وتصدير الطاقة الكهربائية. فهذا الإتفاق يسمح لإيران بإنتاج الطاقة الكهربائية من المفاعلات النووية, واذا ما علمنا ان إيران صدّرت قرابة 5000 غيغا واط ساعة من الكهرباء لدول الجوار خلال شهر آذار الماضي, فيمكن تصور مقدار العائدات التي ستحصل عليها من تصدير الطاقة الكهرونووية. هذا فضلا عن انتاج النظائر المشعة للإستخدامات الطبية. كما وان هذا الإتفاق يفضي الى الغاء العقوبات الإقتصادية المفروضة على ايران على خلفية برنامجها النووي وهو ماستكون له انعكاسات كبيرة على الإقتصاد الإيراني.
ومن ناحية اخرى فإن هذا الإتفاق فوّت الفرصة على اسرائيل لمهاجمة ايران عسكريا, فقد تصاعدت النبرة الإسرائيلية حيال ايران وطوال السنوات الماضية, حيث هدّدت اسرائيل مرارا وتكرارا بتدمير البرنامج النووي الإيراني, الا انها اليوم تقف عاجزة عن القيام بعملية عسكرية من هذا النوع لأنها ستكون غير مبررة مع تعهد المجتمع الدولي بضمان عدم خروج البرنامج النووي عن مساره السلمي, في حين ان ردة الفعل الإيرانية في حال وقوع هجوم عسكري ستكون مبرّرة.
ولذا فيمكن القول ان ايران حققت نصرا في لوزان حيث انتزعت اعتراف المجتمع الدولي ببرنامجها النووي وبامتلاكها للتقنية النووية وبانها قادرة على صنع السلاح النووي الا انها لاتريد ذلك, وانها نجحت في الحفاظ على ديمومة برنامجها, الذي لم يلقى مصير مفاعل تموز العراقي, وكذلك فانها نجحت في تامين مصدر دخل اقتصادي لا يستهان به , ونجحت في تامين مصادر طاقة متنوعة غير الوقود الإحفوري.
وفوق كل ذلك فإنها أفشلت كافة محاولات العديد من دول الخليج الفارسي وخاصة السعودية لإجهاض أية اتفاقية مع الدول الكبرى تسمح بديمومة البرنامج النووي الإيراني. فتلك الدول انفقت المليارات على صفقات الأسلحة وخفضت أسعار النفط في محاولة لإضعاف الموقف الإيراني ولإغراء الدول الكبرى, إلا أن جميع تلك المحاولات فشلت لحد الآن, وأصبحت دول الخليج تقف امام اعتاب مرحلة جديدة في المنطقة.
فالدول الغربية أثبتت وعبر مفاوضتها مع ايران والتوصل الى اتفاق معها, أنها تحترم المتحضر المتطور وهي تفضل التعامل معها على المدى البعيد, وليس مع انظمة متخلفة غير منتجة لا تنظر اليها الا باعتبارها سوقا استهلاكية, حيث تضع الخطط للإستيلاء على ثرواتها, وكما اجاب أحد الحكماء على سؤال حول السر في اعطاء الله الأغبياء الثروات فأجب قائلا : كي يسحبها الأذكياء منهم.
الإتفاق النووي نجاح كبير لايران, وهو يشكل نقلة نوعية في تاريخ امة عُرِفت بحضارتها وبشغفها في طلب العلم, وبعدم إجترارها للماضي, بل بتوظيفها للماضي والحاضر لبناء مستقبل أفضل.
*ساهر عريبي – إعلامي – لندن