مقاربة يزكيها، (وزكاها)، تاريخ الرأسمالية الغربية الحافل بالحروب بأشكالها: الداخلية والخارجية، المحدودة والواسعة، الإقليمية والعالمية. ما يعني أن سدنة النظام الرأسمالي كانوا دوماً أول المبادرين إلى وضع الحراب على رأس الأجندة لتعظيم الأرباح داخلياً والنهب خارجياً. هنا يتضح أن اعتماد الأنظمة الرأسمالية الغربية للقوة العسكرية وسيلة للسيطرة، داخلياً وخارجياً، هو خيار قائم ومفتوح لديها، اللهم إلا إذا كان بوسعها تحقيق الهدف ذاته، (السيطرة)، بالقوة الناعمة، أو إذا كان هناك أمامها قوى قادرة على ردعها أو إلحاق الهزيمة بها وتحويل حروبها إلى مشاريع خاسرة. أما الرادع الأخلاقي فلا وجود له في قاموس الأنظمة الرأسمالية. فالأخلاق تسيل كما يسيل الماء في النهر في حال اصطدامها بمصالح هذه الأنظمة القائمة أصلاً على الاستغلال وتعظيم الربح والثروة.
لكن ولما كان اعتماد القوة العسكرية وسيلة للسيطرة مرادفاً لانعدام الأخلاق، وتعبيراً عن الفشل في تحقيق الهيمنة بالقوة الناعمة، وخالقاً لكل أشكال الصراع والاستقطاب، ومدها بأسباب وعوامل وقوى اجتماعية إضافية، محلياً وإقليمياً وعالمياً، فإن سحر شن الحروب ينقلب في التحليل الأخير على أصحابه مهما كانت قوتهم، ذلك ببساطة لأن الحروب تستنفر الطبقات والشعوب المقهورة، وتجعل المثل الإنسانية العليا حاجة تشعل الحماسة للكفاح بمستوى عالٍ يشبه مستوى الولوج في أشكال من التراجيديا التاريخية الكبرى.
ولكل من يريد التعلم من التاريخ لتجنب سخريته من أوهام السيطرة عليه بالقوة العسكرية، أن يتذكر أن بريطانيا كانت "إمبراطورية لا تغيب عنها الشمس"، وأن حركات الشعوب المستعمَرة هي، وليس أخلاق قيادة بريطانيا الرأسمالية الاستعمارية، من أنهى هذه الإمبراطورية، حيث كانت أولى هزائمها في الهند، درة التاج البريطاني، ثم هزيمتها في مصر بالجلاء الكامل عنها بعد هزيمة العدوان الثلاثي عليها في العام 1956، ثم في.........الخ من هزائمها التي قادتها في نهاية المطاف إلى أن تصبح منذ نهاية الحرب العالمية الثانية مجرد تابع، بل ذيل، للولايات المتحدة. واليوم يعيد التاريخ التأكيد على الدرس ذاته حيث لم يعد أمام الشعب الأمريكي المثقل، ومعه الشعوب الأوروبية، بخسائر بشرية ومادية ومعنوية هائلة جراء عقدين من حروب خرافة "نهاية التاريخ" سوى القبول بالواقع والتكيف مع شكل جديد للعولمة تكون الولايات المتحدة فيه أحد الأقطاب وليس القطب الوحيد، بما ينعكس إيجاباً على حياة المواطنين الأمريكيين والأوروبيين المطالبين بتوفير المصروفات المهولة على حروب جديدة لمصلحة أهداف التنمية المختلفة. فارتدادات نظام الليبرالية الجديدة ووحشية عولمته بالقوة العسكرية انعكست على أصحابه قبل غيرهم. هنا يكمن سر خلاف إدارة أوباما السياسي مع جهات سياسية أمريكية لا ترى حاجة إلى إجراء أية اصلاحات على نظام الليبرالية الجديدة الفالت من أي تدخل للدولة، بل وتعتقد بأن شن حروب جديدة هدفها السطو على ثروات دول أخرى، قادر على تجاوز ما خلقه هذا النظام من أزمة اقتصادية عالمية.
ما يعني أن خلاف إدارة أوباما مع الداعين، داخل الولايات المتحدة وخارجها، إلى شن حروب أمريكية جديدة، لا يعود إلى أسباب أخلاقية أو إلى اختلافات في المزايا الشخصية، إنما إلى ما تعيشه الولايات المتحدة من أزمة مالية تعكس أزمة اقتصادية سببها الأساس أنها كدولة تضع موازنات فوق قدراتها اعتماداً على الاستدانة الداخلية وعلى فوائض دول غنية مثل الصين واليابان وألمانيا وبلدان الخليج "الفارسي". إذ صحيح أن قدرة الولايات المتحدة على جلب هذه الفوائض نجاح، لكنها تمثل نقطة ضعف بنيوية، ستعود إلى الانفجار من جديد، رغم قدرة النظام الاقتصادي الأمريكي على التعايش معها ربما لعقدين كما يرى بعض خبراء الاقتصاد العالميين. أما لماذا؟
لأنه بهذا نما في الولايات المتحدة السوق أكثر مما نمت الدولة إلى درجة أن يتحكم بها تحكماً مطلقاً. وهو ما ينطوي على مخاطر كثيرة، منها احتمال انهيار الدولة كأداة بعد أن أصبحت مجرد مجموعة مساهمين في السياسة بدل الحديث عن مواطنين. ولئن كانت هذه المشكلة واحدة من المشاكل البنيوية الأساسية للأنظمة الرأسمالية عموماً، لكنها في الولايات المتحدة خصوصاً تفاقمت إلى درجة إظهار الدولة كشركة مساهمة، بمعنى لكلٍ فيها سهم أو أسهم متفاوتة الثقل دون أن ننسى أن ثمة بين المساهمين دول أجنبية منها من صار عملاقاً اقتصادياً، كالصين واليابان وألمانيا مثلاً. المشكلة الأمريكية هنا ليست جديدة، بل تعود إلى تحرير السوق من أي تدخل للدولة منذ وضع الرئيس الأمريكي الأسبق رونالد ريغان "نظرية جانب العرض"، أي نظرية أن زيادة المعروض يؤدي إلى رخص الأسعار، وبالتالي إلى زيادة الاستهلاك. لكن هذا غير صحيح لأن تحرير السوق من كل تدخل للدولة يؤدي إلى الإفقار، وبالتالي إلى انخفاض القدرة الشرائية، ولأن هنالك اختلاف في توجهات الناس والمجتمعات تجاه الاستهلاك، فالناس في نهاية المطاف تختار ما تريد من المعروض.
قصارى القول: فيما تقدم يكمن السبب الأساس للتغير الحاصل في موازين القوى في السياسة الدولية ونظامها وقراراتها ومؤسساتها، حيث لم تعد الولايات المتحدة قطباً منفرداً في السيطرة على العالم، ما يحد من قدرتها على شن الحروب الكبيرة وقتما تشاء وحيثما تريد، رغم أنها ما زالت تملك أقوى وأكثر من نصف 216 احتكاراً عالمياً، تشكل إمبراطورية نهبٍ عالمية متحالفة مع النظام الأمريكي الذي يقود البلد الأقوى اقتصاديا وتكنولوجيا بإنتاج سنوي يناهز 5 تريليون وقوة عسكرية طاغية. أما لماذا آلت إمبراطورية النهب الأمريكية إلى ما آلت إليه؟!
لأنها كما الإمبراطورية البريطانية تغطرست إلى درجة الاعتقاد بأن السيطرة على التاريخ الماكر بالقوة العسكرية واردة. والشواهد على ذلك كثيرة، لعل أبرزها:
1: في العام 1945 تغطرست الولايات المتحدة ووجهت ضربتها الذرية لليابان التي تتفوق عليها اليوم في بعض المجالات، كالتكنولوجيا، (مثلاً).
2: في العام 1948 تغطرست الولايات المتحدة وتدخلت عسكرياً كوريا لا بهدف تقسيمها، بل بهدف السيطرة على منطقة الحدود المتاخمة لروسيا والصين. لكن هذه المنطقة ظلت مع كوريا الشمالية التي لا تزال تدور في فلك الصين التي رغم كل محاولات الاحتواء الأمريكي لها صارت اليوم قطباً دولياً بقدرات اقتصادية وعسكرية هائلة.
3: في العام 1968 تغطرست الولايات المتحدة في فيتنام إلى درجة أن يقول وزير دفاعها آنذاك، روبرت ماكنمارا: "سأجعل الغربال يتدحرج من شمال فيتنام إلى جنوبها دون أن يصطدم بشيء"، لكن بعد سبع سنوات فقط، أي في العام 1975، حلت بالقوات الأمريكية أكبر هزائمها العسكرية وأكثرها مهانة.
4: في العام 2001 غزت القوات الأمريكية أفغانستان بهدف إسقاط نظام طالبان بينما تحاوره اليوم بغرض تأمين خروج آمن لقواتها.
5: في العام 2003 احتلت الولايات المتحدة العراق ودمرته، لكنها اليوم تتوسل إيران .
6: في بداية تسعينيات القرن الماضي صارت الولايات المتحدة قطباً منفرداً في النظام الدولي، فتغطرست إلى درجة الطمع في تحويل دولة بوزن روسيا إلى دولة "عالم ثالثية"، لكن روسيا اليوم عادت تنافسها بقوة على قيادة العالم.
7: على امتداد تاريخها تعاملت الإدارات الأمريكية مع بلدان أمريكا اللاتينية كحديقة خلفية تابعة، ما قادها إلى خسارة هذه البلدان واحدة تلو الأخرى.
*علي جرادات - عرب 48