ربما حاول الخبراء الاستراتيجيون الغربيون مقاربة اية معادلة يمكن ان تؤدي الى التناغم بين واشنطن وطهران، بيد ان الواقع شيء والتصور شيء آخر، ذلك ان ايران وبعد اربعة وثلاثين عاما من ثورتها الاسلامية المظفرة تدرك تماما بان أي انجذاب نحو الاستراتيجية الاميركية هي بمعنى التفريط بكل ثوابتها المبدئية والتراجع عن حقوقها الوطنية العادلة، والتخلي عن التزاماتها الاسلامية والانسانية في المنطقة والعالم.
فلقد جمدت العلاقة بين الدولتين علی مرحلة "الفطام" في الايام الاولى لانتصار الثورة الاسلامية، وذلك عندما اقدمت الولايات المتحدة على قطع علاقاتها الدبلوماسية مع ايران على خلفية احتلال وكر التجسس الاميركي (في يوم 13 آبان 1358 حسب التقويم الايراني) (الموافق 3 تشرين الثاني 1979)، وفي هذا الموقف الاميركي كفاية للبرهنة على ان استراتيجية واشنطن الاستكبارية اججت من یومها نيران مناصبة العداء لطهران، وهي تواصل هذه النزعة الشيطانية، رغم ان الجمهورية الاسلامية اضاءت الشمعة الرابعة والثلاثين لمسيرتها التحررية والثورية الصامدة، دون ان تؤثر الضغوط والعقوبات والسلوكيات الاستفزازية الاميركية، فيها ابداً.
ان البون الشاسع الذي يفصل بين ايران واميركا، هو نتيجة "نظرة استعلائية" لا تتحمل مسؤوليتها سوى "الولايات المتحدة" ذاتها، ولسبب واحد هو انها غارقة الى حد الثمالة في "وهم القدرة المطلقة"، الامر الذي يجعلها تقيم جميع حساباتها على هذا الاساس، وفي مثل هذه الحالة فان من الطبيعي، ان تنفر الجمهورية الاسلامية من أي جنوح للتقارب مع هذه الدولة المستكبرة، خصوصا وان دوائر الولایات المتحدة لم تدخر وسيلة دنيئة الا واستخدمتها لتقويض الثورة الاسلامية ومنجزات ايران العظيمة في جميع المجالات سياسيا واقتصاديا وثقافيا وعلميا وتسليحيا ودورا جيواستراتيجيا على مستوى المنطقة والعالم.
اما في ما يتصل بامكانية قيام تجانس في السياسات والمواقف الاقليمية والدولية، فالواضح عدم توفر مثل هذه الارضية لدى كلا الطرفين، باعتبار ان اميركا واحداثياتها العابرة للقارات، غير مستعدة ابدا للتنازل عن أي شيء يمكن ان يؤثر في تحقيق مآربها السلطوية والاستغلالية والهيمنية.
لقد تسببت هذه السياسات على الدوام في اثارة حفيظة الثورة الاسلامية التي ترفض ادبياتها التحررية الانحناء امام التيارات الاستكبارية العارمة ولاسيما على مستوى منطقة الخليج الفارسي والعالم الاسلامي. وقد ادى ذلك الى قيام صدامات واحتكاكات متواصلة بين طهران وواشنطن، باعتبار ان السياسات الاميركية هذه، تربك التوازنات الاقليمية والدولية باتجاه الاضرار بالمصالح الايرانية والعربية والخليجية والشرق اوسطية، وهو ما يعني تحريض الجمهوریة الاسلامیة وحلفائها على حشد جميع طاقاتهم وقدراتهم في سبيل لجمها واجهاضها، كما حصل في افشال اهداف الاحتلال الاميركي للعراق وافغانستان، وتحطيم اعمال الغطرسة واستعراض العضلات في مياه الخليج الفارسي، اضافة الى اذلال "اسرائیل" المجرمة بالكثير من الهزائم والاندحارات العسكرية على ايدي المقاومة الاسلامية الباسلة في لبنان وفلسطين. وبعد هذا وذاك وقوف ایران سدا منیعا امام محاولات "التحالف الامیرکي الاوروبي الصهیوني الخلیجي الترکي" لاسقاط سوریا من محور قوی المقاومة والممانعة فیي الشرق الاوسط.
في ضوء ذلك يخطئ من يعتقد بامكانية ايجاد مواءمة او مساكنة للادوار بين واشنطن وطهران في المنطقة، نظرا لتباين العقيدة السياسية للطرفين من جهة واختلاف الرؤية الاستراتيجية لهما حول القضايا الاقليمية والعالمية اختلافا شاسعا من جهة اخرى.
وهنا من الواجب معرفة حقيقة ان معالجة التجاذبات المتبادلة، لا يمكن ان تقف الا عند حدود التمنيات والآمال والخیالات، واحيانا عند حدود المواقف الاعلامية التي عادة ما تبادر الاوساط الاميركية وعلى ارفع المستويات الى اصدارها للايحاء بان ثمة اجواء يمكن ان تشجع الحوار والتفاهم بين الخصمين اللدودين مهما كانت كان الهوة سحقية بينهما.
الثابت ان هذه الاثارات سوف تبقى اسيرة التكهنات الجوفاء، ويعود السبب في ذلك الى ان الطرف الاميركي ليس جديرا بالثقة ولا يمكن الاعتداد باطروحاته التي هي في معظمها قريبة من عوالم الالغاز والطلاسم، وازاء ذلك فان الجمهورية الاسلامية تعتبر الانجرار اليها أو الانخراط فيها، ليس سوى مضيعة للوقت او الدخول في حلقة مفرغة.
من هنا لم يكن عبثا ان يعتبر قائد الثورة الاسلامية آية الله السيد علي خامنئي، (حديث اميركا عن الحوار تزامنا مع مواصلة الضغط والتهديد ضد ايران، سلوكا مخادعا) موضحا لدى استقباله يوم الخميس الماضي 7/شباط/ 2013، ضباط وكوادر القوة الجوية الايرانية في ذكرى البيعة للامام الخميني الراحل (قدس سره) عقب عودته الى الوطن وقبيل انتصار الثورة الاسلامية المباركة باربعة ايام عام 1979 بالقول: (ان استمرار الضغوط والتهديدات الاميركية المختلفة على ايران منذ 34 عاما، وتقارن ذلك مع تصريحات المسؤولين الاميركيين بشأن التفاوض والمحادثات مع الجمهورية الاسلامية، دليل واضح على غياب حسن النية لدى المسؤولين في الولايات المتحدة).
فقد خاطب السيد خامنئي خلال كلمته بامراء الجيش ومنتسبيه في القوة الجوية، المعنيين في الادارة الاميركية قائلا: (اننا ندرك حاجتهم للحوار لان السياسة الاميركية في الشرق الاوسط لقيت الفشل، وهم بحاجة الى اكتساب ورقة رابحة لتعويض اخفاقاتهم).
واضاف قائد الثورة: (انتم تصوبون اسلحتكم نحو الشعب الايراني، ثم تقولون: اما الحوار واما ان نطلق النار! لكنني اقول: اعلموا بان الضغط والحوار امران متناقضان، وان الشعب الايراني لن ترعبه مثل هذه الامور).
من هذا المنطلق ومن وحي كلام السيد القائد يمكن الجزم بان مشكلتنا مع اميركا تكمن في طبيعة العلاقة المتبادلة في ما بيننا، وهي التي وصفها سيدنا الامام الخميني (قدس سره) منذ القدم بانها كـ (العلاقة بين الذئب والحمل). وعلى هذا الاساس يتضح من كل مضى هوية الاختلاف الجذري بين ايران الثورة الاسلامية واميركا المستكبرة واستحالة ردم الهوة العمیقة بينهما منذ اکثر من (34 عاما)، وذلك بسبب لغة الغطرسة الاميركية التي لا تسمح للطرف المقابل بان یکون رقما ولو صغیرا في التوازنات العالمیة، الامر الذي ضربته الجمهوریة الاسلامیة عرض الحائط، وقدمت بذلك نموذجا فذا في الاستقلال والسيادة والحریة الناجزة وامتلاك نواصي القدرات العلمیة والصناعات العسکریة والفضائیة والبحریة والبریة واحتراف شفرات الحروب الالکترونیة وانتاج الطاقة النوویة السلمیة فضلا عن مفاجآت اخری لا ترید طهران الافصاح عنها حالیا، وکل ذلك على الرغم من انوف الطغاة الغربیین والصهاینة والرجعیین.
حمید حلمي زادة