هذه الأطروحة تجسّدت في إعادة بعث الروح من جديد للنظرية الإسلامية في مجال الحكومة والولاية - التي هي معتقدنا - إكمالاً للدين وإتماماً للنعمة الإلهية الكبرى على البشرية.
ولا يختلف اثنان في أنّ إعادة طرح الإمام الخميني العظيم لشكل النظام السياسي الإسلامي، من خلال طرحه لنظرية ولاية الفقيه، قد لعب دوراً مهماً وبارزاً في إغناء الفكر السياسي، وتذكير الأمة بالدور الكبير للفقيه والحاكم والولي، وقيادة الأمة في عصر الغَيبة.
هذا وقد جاء تشكيل الإمام (قده) للدولة الإسلامية في إيران بعد فترة طويلة من غياب الإسلام عن مسرح الأحداث السياسية في العالم، مما أكسب هذه الدولة بالمبادئ والأفكار والأسس التي قامت عليها لوناً خاصاً المستوى الإسلامي العام، باعتبار أنها قد حققت الحلم الذي طالما انتظرناه، وأشعلت النور الذي طالما أملناه.
وفي ظل غياب الإمام ورحيله الى الرفيق الأعلى، ظهر نور مشرق بالأمل، أضاء على الأمة كلها. وكان بمثابة عزاء للأمة في مصابها، ولا زال ذلك هو الرمز المنير سماحة آية الله العظمى السيد علي الخامنئي (دام ظلّه)، قائد الأمة وولي لأمرها، وخليفة للإمام الراحل، فالرجل الذي اختاره كبار علماء الأمة لهذه المهمة الصعبة، وهذا الحمل الثقيل، هو امتداد حقيقي للإمام الراحل (قده)، لشخصية الإمام، ولفكر الإمام، ولخطه الأصيل؛ الأمر الذي حمل السكينة والطمأنينة تجاه مستقبل الثورة الإسلامية المباركة. فالإمام الخامنئي (دام ظلّه) هو ابن الإمام البارّ، وتلميذه، وأحد أقرب أصحابه إليه، ولعل ثلاثين عاماً من العلاقة المتينة كافية لتجعل آية الله الخامنئي بضعةً للإمام الخميني (قده)، حيث ستبقى الثورة تستلهم فكر الإمام وخطاه، وسيبقى فكر الإمام هو فكر الثورة، وخطه خطها.
وكما قال سماحة السيد القائد في أول بيان له بُعيد انتخابه:
إنّ أية حادثة وأية غاية لن تتمكن من فصل فكر الإمام وتعاليمه عنا، لأنها جزء من وجودنا، وأنا في مسؤوليتي الخطيرة الجديدة ألتزم وأتعهد بتطبيق تلك التعاليم الإلهية بحذافيرها .
شهادة الإمام بالسيد القائد:
على أثر عروج روح الإمام الخميني (قده) الى بارئها، إستُدعي في نفس الليلة مجلس الخبراء من المدن الإيرانية كافة، وفي صباح اليوم التالي (الأحد 4 حزيران 1989 م) عُقد اجتماع كبير ضم أبرز قادة البلاد ومسؤوليها، تلا فيه السيد الخامنئي (دام ظلّه) وصية الإمام (قده). وفي عصر اليوم نفسه، عُقد اجتماع آخر، إقتصر على أعضاء مجلس الخبراء ، وجرى فيه النقاش حول انتخاب القائد أو القيادة الجديدة. ولم يكن هناك اتفاق سابق معيّن بشأن شكلها أو مصاديقها، لأنّ بعض الأحاديث الجانبية التي سبقت انعقاد الإجتماع كانت تدور حول انتخاب مجلس قيادي (منهم السيد الخامنئي دام ظلّه ). وفي مقابل ذلك، برز تيار آخر يطالب بجعل القيادة فردية.
وبعد الإنتهاء من المناقشات في مجلس الخبراء تم التصويت بالأكثرية لصالح القيادة الفردية، فتحوّل النقاش بعد ذلك الى إيجاد المصداق الحقيقي للقيادة الفردية، فكانت الأنظار تتجه الى السيد الخامنئي (دام ظلّه) الذي كان يرفض تحمّل هذه المسؤولية العظمى. وبعد إصرار الجميع عليه، فضلاً عن الكثير من العوامل الأخرى، رضخ سماحته لهذا الترشيح واضطلع بالمسؤولية الكبرى، ولا شك بأنّ إصرار الجميع كان مبنياً على أساس الشهادات والكلمات التي صدرت من الإمام الراحل (قده)، ومن جملة هذه الشهادات:
أولاً: حين عُزِل الشيخ منتظري من منصبه كقائد مستقبلي، إلتقى الشيخ رفسنجاني الإمام بشكل خاص، وضمن حديثه قال الشيخ رفسنجاني للإمام: إنّ عَزْلكم الشيخ المنتظري سيجعلنا مستقبلاً في مواجهة طريق مسدود .
فأشار الإمام (قده) الى عدم وجود هذا الطريق، حين قال: أليس لديكم السيد الخامنئي؟! .
ثانياً: خلال سفر السيد الخامنئي (دام ظلّه) الى كوريا الشمالية، كان الإمام - وبحضور ابنه السيد أحمد وآية الله الأردبيلي - يشاهد على شاشة التلفاز وقائع سفره وحواره مع المسؤولين الكوريين، فقال السيد أحمد للإمام: أنظروا كيف يُحسن الجواب - يقصد السيد الخامنئي (دام ظلّه)!
فقال الإمام: إنه جدير بالقيادة .
ثالثاً: في اجتماع مع الإمام الخميني (قده)، قبل أشهر من عروج روحه الطاهرة، ضم رؤساء السلطات الثلاث السابقين (السيد الخامنئي (دام ظلّه)، والسيد الأردبيلي والشيخ رفسنجاني)، ورئيس الوزراء السابق حسين الموسوي والسيد أحمد (نجل الإمام)، جرى الحديث حول الفراغ القيادي الذي سيحدث بعد الإمام، وما ينص عليه الدستور بهذا الشأن، فقال: لن يحدث فراغ قيادي، إنّ لديكم مَن يسدّه . فقيل له: مَن هو؟ ، فأشار الإمام الى سماحة الخامنئي (دام ظلّه) قائلاً: هذا السيد الخامنئي .
رابعاً: قول السيد أحمد الخميني بأنّ الإمام صرّح عدة مرات بأنّ السيد الخامنئي (دام ظلّه) مجتهد مطلق.
أما المواصفات التي يتمتع بها السيد الخامنئي (دام ظلّه) واعتمد الخبراء عليها فهي:
أولاً: المواصفات الشرعية المثبتة، التي طرحها ويطرحها فقهاء الإسلام بشأن القيادة وشروطها.
فهذه نجد أنها تتوافر دون استثناء في سماحة السيد القائد، حيث ثبتت كفاءته وقدراته القيادية عملياً طيلة السنوات العشر التي أعقبت انتصار الثورة الإسلامية. كما يشهد على عدالته وتقواه جميع أهل الحل والربط، وغيرهم من الفقهاء، فضلاً عن المقبولية التي يتمتع بها عند الأمة.
أما اجتهاده ومرجعيته، فمسلَّم بهما لدى أهل الخبرة والتخصص، وقد حظي السيد الخامنئي (دام ظلّه) بشهادة أكثر من مرجع ومجتهد، نذكر منها:
1 - شهد الإمام الخميني (قده) - أستاذه - باجتهاده أكثر من مرة، وقد أكد ذلك السيد أحمد الخميني في رسالة البيعة التي أرسلها للسيد الخامنئي (دام ظلّه) بقوله: إنّ سماحة الإمام قال باجتهادكم المطلق عدة مرات .
2 - شهد آية الله الحائري (أستاذه الذي توفي عام 1985 م) باجتهاده أمام العديد من الطلبة.
3 - مجلس الخبراء (الذي انتخب السيد الخامنئي دام ظلّه ) المؤلف من 74 مجتهداً، بينهم ما لا يقلّ عن خمسة عشر من كبار الأساتذة في البحث الخارج مثل:
- آية الله مشكيني والشيخ اللنكراني والشيخ جواد آملي.
- السيد الروحاني والشيخ المظاهري والشيخ الأميني.
- السيد الأردبيلي والشيخ الآذري القمّي والشيخ الصانعي.
- السيد الطاهري والشيخ الخزعلي.
فشهادة هؤلاء - فضلاً عن باقي أعضاء المجلس - تعتبر أكثر من بيّنة على اجتهاد سماحة السيد الخامنئي (دام ظلّه).
4 - كما أنّ كتب التأييد التي أرسلها المراجع الكبار في إيران (آية الله الكلبايكاني، المرعشي النجفي، العراقي والآملي)، إضافة الى الشيخ المنتظري والشيخ المشكيني، الى السيد الخامنئي (دام ظلّه)، هي الأخرى تكفي للتثبّت من صحة انتخاب السيد الخامنئي (دام ظلّه) بمبانيها الشرعية وشرائطها.
إذاً، إنّ توافر جميع المقوّمات الشرعية لانتخاب السيد الخامنئي (دام ظلّه) لولاية الأمر، تجعل قيادته كقيادة الإمام الخميني (دام ظلّه) تماماً في أسسها وحدودها وإطلاقها، وطبيعة أوامرها ونواهيها الولائية.
ثانياً: المواصفات القانونية المدونة في دستور الجمهورية الإسلامية.
والذي ينص في الفصل الثامن منه على القيادة: شرائطها، وانتخابها، صلاحياتها وواجباتها، وقد رُوعيت هذه المواصفات في انتخاب السيد القائد. ومما جاء في الدستور في المادة الخامسة (بعد التعديل):
في زمن الغَيبة، غَيبة الإمام المهدي (عج)، تكون ولاية الأمر وإمامة الأمة في جمهورية إيران الإسلامية بيد الفقيه العادل، المتّقي، البصير بأمور العصر، الشجاع، القادر على الإدارة والتدبير. وذلك وفقاً للمادة السابعة بعد المئة .
وبناءاً على توفر هذه المواصفات في شخصية السيد القائد (دام ظلّه) فإنه، وبعد انتخابه قائداً للأمة الإسلامية، أصبح يمتلك الصلاحيات والواجبات التي ينص عليها دستور الجمهورية الإسلامية. وجاء في المادة 110 من الدستور المعدّل أنّ واجبات القائد وصلاحياته هي:
1 - تعيين السياسات العامة لنظام جمهورية إيران الإسلامية، بعد التشاور مع مجمع تشخيص مصلحة النظام.
2 - الإشراف على حُسن إجراء السياسات العامة للنظام.
3 - إصدار الأمر بالإستفتاء العام.
4 - القيادة العامة للقوات المسلحة.
5 - إعلان الحرب والسلم والنفير العام.
6 - نصب وعزل وقبول استقالة كلٌ من:
أ) فقهاء مجلس صيانة الدستور.
ب) أعلى مسؤول في السلطة القضائية.
ج) رئيس مؤسسة الإذاعة والتلفاز في الجمهورية الإسلامية المباركة.
د) رئيس أركان القيادة المشتركة (للجيش).
هـ) القائد العام لقوات حرس الثورة الإسلامية.
و) القيادات العليا للقوات المسلحة وقوى الأمن الداخلي.
7 - حل الخلافات، وتنظيم العلاقات بين السلطات الثلاث.
8 - حل مشكلات النظام التي لا يمكن حلّها بالطرق العادية، من خلال مجمع تشخيص مصلحة النظام.
9 - إمضاء حكم تنصيب رئيس الجمهورية بعد انتخابه من الشعب.
10 - عزل رئيس الجمهورية، مع ملاحظة مصالح البلد، وذلك بعد صدور حكم المحكمة العليا بتخلّفه عن وظائفه القانونية، أو بعد رأي مجلس الشورى الإسلامي بعدم كفاءته السياسية على أساس المادة التاسعة والثلاثين.
11 - العفو أو التخفيف من عقوبات المحكوم عليهم في إطار الموازين الإسلامية بعد اقتراح رئيس السلطة القضائية.
وهذه الصلاحيات والواجبات للقائد كانت ولا تزال على ما هي عليه بعد تعديل دستور الجمهورية الإسلامية، لذا فهي وفق نظرية ولاية الفقيه التي طرحها الإمام الخميني تكاد تكون ثابتة، وثبات هذه الصلاحيات وممارستها من قِبل الإمام الخامنئي (قده) تعني أنّ ولايته كولاية الإمام الخميني (قده) تماماً، ومن دون تجزئة.
ثالثاً: المواصفات الشخصية:
فضلاً عن المواصفات الشرعية والدستورية، فإنّ سماحة السيد الخامنئي (دام ظلّه) يتميز بمواصفات شخصية لا تجتمع في غيره، منها:
1 - خبرته التنفيذية الطويلة، حيث كان على رأس السلطة التنفيذية خلال ثماني سنوات، وكان خلال تسع سنوات إماماً لصلاة الجمعة في طهران (المعيَّن من قِبل الإمام الراحل)، وكان رئيساً لمجلس الثورة الثقافية، ورئيساً لمؤتمر أئمة الجمعة والجماعات، والنائب الأول لرئيس مجلس الخبراء و مجلس إعادة النظر في الدستور . وقبل ذلك كان عضواً في مجلس قيادة الثورة، الذي شكّله الإمام قبل الإنتصار في عام 1979 م، وضم أبرز قادة الثورة، ولوجوده في كل هذه المواقع الدينية والسياسية دلالات عميقة على المستويات العملية والسياسية والإجتماعية العالية التي يتمتع بها.
2 - سوابقه الجهادية، التي تعود الى سنوات تتلمذه على يد الإمام الخميني (قده)، إبتداءاً من عام 1958 م.
3 - يحظى سماحته باحترام بالغ ومقبولية عامة، على مختلف المستويات عند الشعب والجهاز الحكومي والحوزات العلمية ومرجعياتها الدينية وأجهزتها والفقهاء وأئمة المدن. وهذا الأمر بالغ الأهمية إذا ما عرفنا بأنّ جهاز المرجعية الدينية هو صاحب التأثير الأول في البلاد.
الإمام الخامنئي(دام ظلّه) ولياً لأمر المسلمين لا للإيرانيين فقط:
تعتبر تجربة الحكم الإسلامي وشكله المتّبع في نظام الجمهورية الإسلامية من الظواهر التي لم يعهدها المسلمون منذ عصر الأئمة (عليهم السلام)، باعتبار أنه نظام يقوم على أساس أن يكون الحاكم فيه ومصدر السلطة الأولى هو الولي الفقيه، الذي هو في نفس الوقت ولياً للأمة الإسلامية كلها لا ولياً للأمر في الدولة التي يقوم نظامها على أساس الإسلام فقط. ومن هنا، نشأ سؤال أو اعتراض لدى البعض مفاده أنه: ما هي علاقة الإمام الخميني الراحل أو السيد القائد بسائر المسلمين؟ وهل أنّ المساحة الجغرافية للقيادة تتعدّى حدود إيران وتشمل غير الإيرانيين، أم أنها تقتصر على إيران فقط؟
والإجابة عن هذا السؤال تتفاوت بتفاوت المباني الفكرية والشرعية لأصحابها، إضافة الى طبيعة الموقف من الجمهورية الإسلامية ونظامها القائم. ولكن من خلال إدراكنا وفهمنا لما حصل من بيعة عامة للسيد الخامنئي من قِبل الأمة ومراجعها ندرك أبعاد ومساحة ولايته العامة.
فقد بُويع السيد الخامنئي (دام ظلّه) من الأمة من خلال انتخاب مجلس الخبراء له، وهو المجلس الذي عيّنته الأمة مباشرة، وارتضت قراراته.
ثم توالت عليه رسائل البيعة وبياناتها، بصفته ولياً لأمر المسلمين المطلق الذي تجب طاعته على الجميع. وبايعه مراجع الدين الكبار، عبر الرسائل التي بعثوا بها الى سماحته، كالرسالة التي بعثها شيخ الفقهاء والمجتهدين آية الله العظمى الشيخ محمد علي الآراكي، وسماحة آية الله العظمى السيد محمد رضا الموسوي الكلبيكاني، وسماحة آية الله العظمى الشيخ هاشم الآملي وسماحة آية الله العظمى السيد شهاب الدين المرعشي النجفي (قدّس الله أسرارهم جميعاً). كما بايعته الجامعة الكبرى في قم من خلال مؤسستيها الكبيرتين (مجلس إدارة الحوزة، وجماعة المدرّسين في الحوزة العلمية). وكذلك الحوزات والتجمعات العلمية في مشهد و أصفهان و طهران وغيرها.. ومنها جماعة علماء طهران .
وأما خارج إيران، فقد بايعه المسلمون الواعون في فلسطين ولبنان والعراق وباكستان وأفغانستان والهند، بتجمعاتهم الشعبية وحركاتهم السياسية وشخصياتهم البارزة، إضافة الى الشخصيات الأخرى من مختلف دول العالم.