وكما واجه الإسلام في عهد النبوة هذا النوع من التحديات، إلى جانب التحديات الأخرى الأمنية والعسكرية والاقتصادية، فإن الثورة الإسلامية في إيران، واجهت ولا تزال تواجه أعتى المؤامرات وأضراها.
والأمة الإسلامية التي تجابه اليوم كلَّ أنواع المؤامرات العسكرية والأمنية والاقتصادية الأميركية والصهيونية وغيرها، تدرك أن التطبيع الذي يمثل استراتيجية الاختراق الصهيوني لتراث الأمة وثقافتها، هو الأشدُ خطراً وفتكاً من قاذفات القنابل، والطائرات العملاقة، والصواريخ العابرة للقارات، بل وحتى الأسلحة النوويّة. ذلك أن هذا السلاح يعمل على تدمير المجتمعات من داخلها، وبدون ضوضاء، ومن غير أدنى مقاومة. يقول الإمام الخميني: «من جملة المؤامرات التي تركت أثراً كبيراً في مختلف البلاد وبلدنا العزيز، وما تزال آثارها قائمة إلى حدّ كبير، جعل الدول المنكوبة بالاستعمار تعيش الغربة عن هويّتها لتصبح منبهرة بالغرب والشرق بحيث أنها تقيم وزناً لنفسها وثقافتها وقوتها وتعتبر قطبي الشرق والغرب العنصر المتفوّق والارتباط بأحدهما من الفرائض». ويقول: «الإذاعة والتلفزيون والمطبوعات ودور السينما والمسرح من الوسائل المؤثّرة في تدمير الشعوب وتخديرها خصوصاً جيل الشباب، أية خطط كبيرة نفّذتها هذه الوسائل سواء في الدعاية المضادة للإسلام والمضادة للروحانية المخلصة، والدعاية للمستعمرين الغربيين والشرقيين. وطبيعي أن لا ندع هذه الأجهزة الخبريّة والمطبوعات والمجلات تنحرف عن الإسلام ومصالح البلد ويجب أن نعلم أن العقل والإسلام يدين الحرية بشكلها الغربي التي هي سبب لدمار الشباب والشابات».
عبر هذه البوابة، أود أن أتناول، وفي الذكرى السنوية العشرين لانتصار الثورة الإسلامية في إيران، وفي إطار الندوة الفكرية التي ينظّمها مركز الإمام الخميني الثقافي في بيروت، المحور الثاني للندوة بموضوع (الثورة الإسلامية ومواجهة الانحرافات الفكرية).
أنواع التحديات الفكرية
هناك أنواع شتى من التحديات الثقافية والفكرية التي واجهت الثورة الإسلامية في إيران، وددت أن أصنّفها إلى ثلاثة
عناوين كبرى، على سبيل المثال لا الحصر:
الأول: تحدياتٌ فكرية عبر البوابة الإسلامية.
الثاني: تحدياتٌ فكرية عبر البوابة الليبرالية الغربية.
الثالث: تحدياتٌ فكرية عبر البوابة الراديكالية الشرقية.
الأول: تحديات فكرية عبر البوابة الإسلامية:
هذا النوع من التحديات يعتبر الأخطر لأنه يأتي على البنيان من داخله وبدون سابق إنذار...
والعهد النبوي لم يخلُ من مثل هذا التحدي، الذي تندرج تحت عنوانه حركة النفاق، وأصحاب مسجد الضرار الذي نزل القرآن الكريم بهدمه. فقال تعالى: (والذين اتخذوا مسجداً ضراراً وكفراً وتفريقاً بين المؤمنين وإرصاداً لمن حارب الله ورسوله من قبل وليحلفن إن أردنا أردنا إلا الحسنى والله يشهد إنهم لكاذبون ? لا تقم فيه أبداً لمسجد أسّس على التقوى من أول يوم أحق أن تقوم فيه، فيه رجال يحبّون أن يتطهروا والله يحب المطهرين) (التوبة: 107 ـ 108).
ولقد أشار الإمام الخميني إلى أنواع من هذا التحدي:
* ففي نوع منها يقول: «انظروا الهيئات الدينية فستجدون آثار ونتائج تلك الدعايات واضحة، فهنالك الباطلون من عديمي الهمم، وهناك الكسالى الذين يكتفون بالدعاء والثناء والتحدث في بعض المسائل الشرعية وكأنهم لم يخلقوا لغير ذلك». ويقول: «الأفكار البلهاء التي يثبتها الأعداء مما ذكرنا بعضها، يوجد فينا من يؤمن بها، وفي هذا إدامة للاستعمار والنفوذ الأجنبي. هؤلاء يمنعوننا من الاصلاح والتقدم والنهوض»، ويقول: «هؤلاء ليسوا بفقهاء، وقسم منهم قد ألبستهم دوائر الأمن والاستخبارات العمائم. هؤلاء يجب فضحهم لأنهم أعداء الإسلام».
وفي نوع آخر يقول: «إن كل من يتظاهر بالرأي القائل بعدم ضرورة تشكيل الحكومة الإسلامية فهو ينكر ضرورة تنفيذ أحكام الإسلام، ويدعو إلى تعطيلها وتجميدها، وهو ينكر بالتالي شمول وخلود الدين الإسلامي الحنيف». (أنموذج: علي عبد الرازق وعموم المستشرقين).
* وفي نوع آخر يقول: «إن الفقهاء يجب أن يقودوا الشعب ويحصّنوا المسلمين من اندراس معالم الإسلام وتعطّل أحكامه. إنهم اليوم حجة على الشعب، كما كان الرسول (ص) حجة على الأمّة، وكانت الأمور كلها موكولة إليه، فكل راد عليه محجوج».
ويقول: «إن عليكم أن تهذبوا أنفسكم إلى الحد الذي يترك سلوككم وأخلاقكم وإعراضكم عن الدنيا أثره في إصلاح الناس، فيقتدون بكم. لا أريدكم أن تتركوا التفقّه، بل عليكم الدراسة المتواصلة بكل جدّية، وما لم تتفقّهوا فإنكم لن تستطيعوا أن تخدموا إسلامكم».
ويقول: «نحن مسؤولون عن تهيئة الجو المناسب لتربية وتنشئة جيل مؤمن فاضل يحطّم عروش الطّغاة».
? وفي نوع آخر يقول: «يجب أن نحذف من قاموسنا منطق الهزيمة القائل بأننا لا نستطيع الالتحام مع القوى الكبرى. إنكم إذا شئتم حققتم ما تريدون بإذن الله».
ويقول: «على المسلمين أن ينهضوا فهم منتصرون في نهاية المطاف. وإن أميركا لن تستطيع أن تقف قبال الإسلام».
ويقول: «إن ما حدث في إيران من ثورة يرجع لعاملين، الأول وهو الأهم من غيره، هو أن الشعب التحم مع الإسلام في مسيرته، بمعنى أن إيران من أقصاها كانت تطالب بالإسلام، والأمر الثاني أن جميع الأصناف والقطاعات اتحدت وتلاحمت فيما بينها».
ويقول: «أنت أيها الشعب إذا أصررت على الطريق المستقيم، وقمت بالأمر فإنك ستمسك أزمة الأمة بيدك. وستصدر منك الأمور وإليك تعود، وإذا تحققت الحكومة التي أرادها الإسلام، فإن الحكومات الفعلية في العالم لن تستطيع الوقوف أمامها».
ويقول: «إن الإسلام كاد أن يُنسى، وكادوا يقضون عليه، وكادوا يسحقون القرآن، إلا أن ثورتكم يا شباب، ونهضتكم يا أبناء الشعب هي نهضة إلهية أحيت القرآن وأحيت الإسلام وأعطت الإسلام حياة جديدة»، ويقول: «إنني لأخجل حقاً حينما أشاهد هذا الجيل الشاب الذي يطالبني ـ وهو في عنفوان شبابه ـ أن أدعو له كي يرزق الشهادة».
ويقول: «إنني أنصحكم أيها السادة وأنتم على رأس بعض الأقطار الإسلامية أن تسعوا لتحكموا القلوب لا أن تحكموا الأبدان، والقلوب عنكم بعيدة».
ويقول: «إن أحد العوامل التي حققت لكم النصر، هذا التصاعد في الظلم والإرهاب، ذلك أن الرعب والارهاب عندما يطغيان فإن الانفجار سيتبعه، ويتجمع الحقد الشعبي لتطلقه صرخة شجاعة».
ويقول: «وأنت إذا كنت لا تمس السياسة الاستعمارية، وكنت في دراستك للأحكام لا تتجاوز النطاق العلمي، فلا شأن لهم معك».
? وفي معرض كلامه عن أهمية الدور الذي تقوم به المعاهد والجامعات في إطار البناء والهدم يقول الإمام الخميني: «يجب أن يعلم الشعب الذي واجه الغارة عليه أن القسم الأكبر من سبب الضربة المهلكة التي وجهت إلى إيران والإسلام في نصف القرن الأخير يعود إلى الجامعات، لو أن الجامعات ومراكز التربية والتعليم كانت تسير وفق برامج إسلامية ووطنية تهدف إلى تحقيق مصالح البلد في تعليم الشباب لما أمكن أبداً أن تبتلع وطننا بريطانيا وبعدها أميركا وروسيا».
الثاني: تحديات فكرية عبر البوابة الليبرالية الغربية:
لقد نشط الغرب في مواجهة الثورة الإسلامية نشاطاً استثنائياً على كل صعيد، وفي مقدمة ذلك الصعيد الفكري والثقافي.
ـ فهو اتّهم الثورة بالرجعية والتخلّف، وعدم مواكبة العصر.
ـ واتهمها بالتعصب والعنف والارهاب.
ـ وحرك المبهورين به من (المستشرقين) و(المستغربين) لتشويه صورتها.
ـ وحرّض العلمانيين على الإيقاع بها والنيل منها.
ـ ثم إنه عمد إلى تجنيد أقلام الساقطين والمنحرفين، للطعن في الإسلام والقرآن والرسول عليه أفضل الصلاة والسلام. وفي إشارة ملفتة من الإمام الخميني إلى أخطار هذا الفريق من الناس يقول: «إن الكتاب والخطباء الجهلة المنبهرين بالغرب والشرق يسخرون من ثقافتنا وأدبنا وصناعتنا واختراعنا ويقللون من شأن فكرنا وإمكاناتنا المحليّة ويزرعون فيها البأس ويروّجون بأعمالهم وأقوالهم وكتاباتهم العادات والتقاليد الأمنية مهما كانت مبتذلة ومنحطّة... وإذا كان في كتاب ما أو في مقالة أو خطابة عدة مفردات أجنبية فإنهم يقبلونه بإعجاب دون التحقيق في محتواه ويعتبرون الكاتب أو الخطيب عالماً ومثقفاً».
ـ وليس المرتد (سلمان رشدي) و(مصطفى جحا) و(منصور فهمي) و(نجيب محفوظ) إلا نماذج لهذه الشريحة التي باعت نفسها لإبليس والشيطان الأكبر.
ـ لم يتورّع (سلمان رشدي) من تسمية كتابه (آيات شيطانية)، ولم يخجل من اتهام إبراهيم (ع) بأنه ولد غير شرعي، وأن عائشة (رضي الله عنها) داعرة، وأن القرآن الكريم قد أباح الشذوذ الجنسي وشجّع عليه، وأن القرآن نفسه من تأليف النبي (ص) .
ـ بل إن زوجة هذا المرتد (ماريان فيغنز)، لم تُخف صهيونيتها من خلال (القصة) التي أعلنت فيها الحرب على المسيحية والإسلام، منفذة نصوص بروتوكولات حكماء صهيون بدقّة، ومنها البروتوكول القائل: «لن يكون هنالك سوى دين واحد هو ديننا الذي يرتبط به مصيرنا. ومن أجل ذلك لا بد من القضاء على كل العقائد».
من هنا.. كان الحكم بإعدام (رشدي) إجراءً وقائياً لوقف هذه العربدة الخسيسة، ولتحصين العالم الإسلامي والمقدّسات الدينية من المروق والفسوق والتخريب.
? هذا من جانب ومن جانب آخر يبيّن الإمام الخميني رأيه في الرأسمالية وموقف الإسلام منها، حيث يقول: «إن الإسلام لا يوافق الرأسمالية المطلقة الظالمة التي تتولى حرمان الجماهير المضطهدة والمظلومة بل إنه يدينها بشكل جدّي ويعتبرها مخالفة للعدالة الاجتماعية».
الثالث: تحديات فكرية عبر البوابة الراديكالية الشرقية
ومن التحدّيات الشرسة التي واجهتها الثورة الإسلامية، تحدّيات الفكر الراديكالي الشيوعي، الذي يعتبر المرتع الخصب لكل أطروحات الزندقة والإلحاد المبنية على مقولة (ماركس): «لا إله والحياة مادة».
ولقد واجه الإمام الخميني هذا التحدي باطمئنان المؤمن وثقة الموقن بانتصار الحق وأهله، وانهزام الباطل وجنده {ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين ? إنهم لهم المنصورون ? وإن جندنا لهم الغالبون} (الصافات: 71 ـ 173).
وابتداءً أرسل الإمام الخميني رسالة إلى (غورباتشوف) يدعوه فيها إلى إعادة النظر بالماركسية ودراسة الإسلام.
وانتهاءً أدرك الإمام الخميني أن الفلسفة الماركسية إلى زوال، وأن الاتحاد السوفياتي إلى أُفول، وكان ما كان {.. فأما الزّبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض كذلك يضرب الله الأمثال} (الرعد: 17). يقول الإمام الخميني: «إلى اليساريين كالشيوعيين وفدائيي الشعب وسائر التجمعات المتمايلة إلى اليسار هي إنكم بأي دافع أرضيتم أنفسكم وأقبلتم على عقيدة هي اليوم في الدنيا فاشلة. أنتم لاحظوا منذ بداية وجود الشيوعية كيف أن المدّعين لها هم أكثر حكومات الدنيا ديكتاتورية وحب سيطرة وأنانية. كم هي الشعوب التي سحقت تحت مقال الشيوعية...».
وبين إفلاس الحضارة الغربية، وسقوط الفكر الماركسي، وانهيار معاقل الباطل، يتردد قول الشاعر:
لا رأسمال الغرب يسعدنا ولا فكر شيوعي دخيل ملحد
الله أكرمنا بنور محمد فعن البصائر يا ظلام تبدّد
يا أمّة الإسلام لا تترددي هبّي فمثلك أمّة لا تقعد
يا هذه الدنيا أصيخي واشهدي أنا بغير محمد لا نقتدي