السبب هو أن العلاقة مع الغرب عدّت، في الغالب، معيارا أساسيا للتبعية أو الاستقلال بل ومعيارا أساسيا للشرعية.
لهذا هناك تساؤلين مطروحين:
الأول هل يمكن تحقيق ''استقلال كامل'' في إدارة العلاقة مع الغرب أو حتى في اتخاذ القرار الداخلي؟
الثاني ما طبيعة علاقة النخبة الحاكمة، أو التي تدير شؤون دول المنطقة حاليا، بالغرب؟
في المسألة الأولى لا بد أن نكون على درجة عالية من الواقعية، والواقعية لا تعني لا الاستسلامية ولا التبرير، إنها تعني قراءة معطيات الوضع قراءة متأنية غير شعاراتية وغير اندفاعية. ففي الوقت الذي لا ينبغي طرح العواطف من المعادلة لا ينبغي جعلها المحدد الرئيسي والوحيد للسياسات. الغرب فضلا عن أنه جار وتجمعنا به علاقات تاريخية من الصراع والصدام ومن التدافع والتبادل والتثاقف، هو اليوم الطرف الأقوى وهو قادر على وضع الاستراتيجيات وعلى تجسيدها وعلى بلدان المنطقة ونخبها العمل من أجل الحد من ''توظيف'' الدول ونخبها ومصالحها في هذه الاستراتيجيات وحتى انتزاع منافع أكبر. لكن ذلك في حاجة لتحسين المركز التفاوضي وتحسين المركز التفاوضي في حاجة لإعادة نظر عميقة في آليات اتخاذ القرار وفي حاجة لتغيير جذري في العلاقة بين السلطة والناس وبين السلطة والنخب وبين النخب والناس. لهذا فالحرية هي الطريق الأفضل من أجل إعادة البناء ومن أجل الوصول إلى ترقية عوامل القوة وتحسين المركز التفاوضي لقيام شروط علاقة تنتزع منافع أكبر من الغرب ومن كل القوى الدولية. أما فيما يتصل بالعلاقة بين النخبة الحاكمة والغرب فينبغي أن نلاحظ التالي: التاريخ القريب يقول لنا إن الكثير من التيارات الإسلامية فضلت في مرحلة تاريخية قريبة التحالف مع الغرب، واعتبرته، في إطار الثنائية القطبية، الحليف الطبيعي، لأن هناك مصلحة مشتركة مزدوجة. من جهة الحد من المد الشيوعي في المنطقة العربية والمسلمة، ومن جهة أخرى مواجهة الأنظمة الوطنية أو الثورية التي كانت ''تقمع'' تلك الحركات. التذكير بذلك ضروري لملاحظة أن الخطاب السياسي للكثير من الحركات والتيارات الإسلامية المعادي اليوم للغرب ليس خطابا مبدئيا دائما إنه خطاب سياسي يتكيف مع الظروف. قد يقول بعضهم إن الواقعية جعلت وتجعل هذه التيارات اليوم، خاصة الإخوان منهم، تعمل على طمأنة الغرب بكونها ليست معادية لمصالحه بقدر ما كانت معادية لدعمه الأنظمة التي كانت قائمة في المنطقة. ولكن ينبغي ملاحظة أن تلاقي ''التقديرات'' السياسية أو ربما فقط طبيعة معطيات الاستراتيجية الغربية وما توظفه من قوى وتيارات في المنطقة خدمة لتلك الاستراتيجية في مرحلة معينة، لم يكن قابلا للاستمرار. لماذا؟ السبب يبدو بسيطا. سقطت الثنائية القطبية فتغير العالم. الغرب صار غربا بالمعنى الحضاري والجغرافي والشرق صار شرقا بالمعنى الحضاري والجغرافي. التحول كان عميقا. وباختصار شديد الغرب صار يبحث عن العدو الخارجي الذي ينبغي استخدامه من أجل تبرير الكثير من السياسات والاستراتيجيات، ولم يجد إلا ''الإسلام'' مع الحرص على وصمه مرة بالإرهاب ومرة بالتطرف، بل وحتى تغذية الحركات المتطرفة، بل وصنعها كما تقول بعض الأطروحات، وفي الوقت نفسه انتقاء حركات سياسية إسلامية ووصمها بالاعتدال.
الغرب أظهر اليوم الكثير من الاستعداد، وربما التفضيل، للتحالف أو استخدام أو التعامل مع تيارات إسلامية معينة أهمها نخبة الإخوان المسلمين. هل هو تحالف اختياري أم هو الأخذ بالواقع القائم أم هو عجز أم تواطؤ؟ مهما كانت الإجابة، فإن المعطيات العامة للعلاقة مع الغرب لم تتغير. الذي تغيّر هو ''النخبة'' التي تدير العلاقة والتي تتولى التحكم في حركة الشعوب وضبطها وعدم تركها على سجيتها لأنها قد تنتج ما لا يرضي لا النخبة الحاكمة ولا المصالح الخارجية.
لهذا فالانتفاضات لم تؤد إلى تحولات ثورية. وقد لا تأت الثورات الفعلية بشكل سريع بل بتدرج بين مرحلة وأخرى.
تلك بعض المسائل التي ينبغي أن ندركها حتى نتبين الواقع من التهويل والتخوين والتبرير.
*مصطفى هميسي-الخبر