خمس معطيات أساسية دفعت بالرئيس السوري لتبني لهجة القوة في خطابه.
أولاً: المعطيات العسكرية الأخيرة و التي جاءت على خلفية معركة داريا, و الانجازات التي حققها الجيش السوري على الأرض. هذا ما دفع المعارض السوري هيثم مناع لاعتبار الخطاب برمته, انتهازاً لنجاح عسكري حققه الجيش السوري.
ثانياً: التقارب الروسي – الأمريكي الاخير المتعلق بالرؤية المشتركة للحل في سوريا, و سيادة القناعة بين القطبين العالميين بضرورة اتباع خارطة طريق واضحة للتغيير, تبدأ بكل الأحوال بوقف العنف في سوريا. من المجدي هنا الالتفات أيضاً للتحول الاخير في الموقف السعودي و المصري, و الذي ظهر للعيان عبر التصريحات التي أعقبت لقاء وزير الخارجية المصري مع سعود الفيصل و التي اعتبر فيها الطرفان أن مسألة رحيل الأسد هي شأن سوري داخلي. هذا ما قد يجيب على الاسئلة التي دارت حول عدم ذكر الرئيس السوري للسعودية عند الحديث عن دور أعداء سوريا, كما حدث في المرات السابقة.
ثالثاُ: القلق العالمي من ظهور جبهة النصرة كبديل محتمل للسيطرة على سوريا في حال سقوط النظام, اللأمر الذي استخدمه النظام السوري باتقان ليعيد رسم شكل المعارضة المسلحة في سوريا. فدخول جبهة النصرة على خط الثورة على الأرض عمل على ضرب المطالب الشرعية للثورة السورية من الحق بحياة كريمة, و انفتاح ديمقراطي و حرية.
رابعاً: عدم قدرة المعارضة السورية المدعومة امريكياً على تقديم برنامج سياسي واضح, جاذب لكافة أطياف الشعب السوري, بحيث يتم تقديمه كبديل حقيقي و واقعي للنظام الحالي. هذا الفشل قد يدفع الائتلاف المعارض ,بصورته الحالية, الى اللحاق بالنماذج السابقة من المجلس الوطني الى مجلس اسطنبول. حتى أميركا الراعي الرسمي للائتلاف اضطرت مؤخراً لتقريع قادته بسبب فشلهم في انتاج حالة معارضة حيوية قابلة للاستمرار. فالنموذج "الاسلامي" المتكلس الذي طغى على الائتلاف و قادته ساهم في انحسار قدرة تشكيل المعارضة هذا على الجذب و الانتاج السياسي, بالرغم من الفرض الذهبية التي قدمها الأمريكيون لهم, على حد تعبير, السفير روبرت فورد. يضاف الى ذلك, ارتباط الائتلاف الضمني و الحسي بنموذج جبهة النصرة و الذي اضطرت واشنطن ان تضعه على لائحة الارهاب مؤخراً. الأمر لم يقتصر على الولايات المتحدة, فمقربون من الابراهيمي أكدوا ان المبعوث الأممي يشعر بالخيبة و الاحباط بسبب سلوك و عقلية ائتلاف المعارضة, الذي لم يجد فيه الابراهيمي شريكاً حقيقياً للحل السياسي, و هذا ما عزز موقف النظام السياسي في تعامله مع الابراهيمي بلا شك.
خامساً: دخول قضية اللاجئين الفلسطينين على خط الأزمة في سوريا بعد احداث مخيم اليرموك, الأمر الذي قد يفتح أبواب الصراع اقليمياً, و بالتالي احتمالية زعزعة الاوضاع في جميع الدول المضيفة, من الاردن الى لبنان و انعكاساته على الضفة و غزة. فتسوية القضية الفلسطينية لا يمكن أن يتم قبل التسوية السياسية في سوريا, لهذا استطاع النظام في سوريا توظيفها لمصلحته الخاصة, بعكس رغبة اعدائه الذين حاولوا استثمارها ضده عبر محاولات ادخال الفلسطينيين على خط الصراع, لتسريع سقوطه.
لماذا لم يكسب الأسد؟
بالرغم من ان اوساط النظام السوري يصرون على وصف الخطاب الأخير ب "خطاب النصر" الا أن النصر وفقاً لكثير من المحللين لم يكتمل, حيث افتقر الخطاب الى نقطة أساسية و هي التصنيف الحقيقي للمعارضة. تعامل الخطاب مع الجميع بطريقة الرفض و التقريع, فلم يتطرق الخطاب الى المعارضة الوطنية السورية التي لم تسقط في مشروع الدم اوالتحالف "التركي القطري", و لم يتطرق الى الدور الوطني و المسؤول التي لعبته على مدار السنتين الأخيرتين. و بالتالي فان عدم تثمين هذا الدور الوطني لهذه القوى هو خطأ استراتيجي قد يعمل على اضعاف موقف النظام بين حلفائه أيضاً. فالاصلاح و الرؤية الاصلاحية تحتاج الى شركاء على الأرض, و عدم الاعتراف بهذه القوى قد تجعل النظام يخسر الجميع, و بالتالي فان اي تغيير على المعطيات الدولية و الاقليمية قد تجعل من "خطاب النصر", خطاب "خسارة".
القصة ليست باختيار مكان حضاري مثل دار الاوبرا لاقلاء خطاب, و لا وصول الرئيس الى وسط دمشق بينما تعرض بعض القنوات الفضائية صوراً" لسقوط مفترض لدمشق", القضية ليست انتقاء كلمات القوة, و ارسال الرسائل الى الداخل و الخارج. ما كان مطلوباً, هو تقديم رؤية واقعية و شاملة للحل و انتقاء للشركاء السياسيين من الاصلاحيين الوطنيين, و اعادة ترتيب البيت الداخلي السوري عبر خطوات حقيقية على الأرض. دون ذلك, لا يمكن لا لروسيا و البريكس, و لا للابراهيمي و الامم المتحدة برمتها أن تتقدم خطوة نحوة تسوية سياسية قادرة على انتاج حالة انتقال سياسي, و بناء مشروع ديمقراطي سوري يحافظ على ما تبقى من الدولة. لكن للاسف هذه السقطات جعلت حتى المبعوث الأممي, الشخص الأكثر تفاؤلاً بالحل السياسي يعبر عن خيبة أمله من خطاب الأسد, حيث قال في مقابلة مع هيئة الاذاعة البريطانية بي بي سي:"أخشى أن ما طرح لا يعدو أن يكون تكرارا لمبادرات سابقة لم تنجح عمليا... في الواقع هذا أمر لا يختلف وربما يكون طائفيا أكثر وأحادي الجانب."
الفرص تتناقص, و الحلول التي لا تستبق رغبات الشعوب, تعد حلولاً غير مجدية و غير مقبولة, لهذا انتقى الابراهيمي كلماته الأخيرة بعناية: "الزمن الذي تمنح فيه الإصلاحات من أعلى برحابة صدر قد ولى. الناس يريدون أن تكون لهم كلمة بشأن طريقة حكمهم ويريدون أن يتولوا أمر مستقبلهم بأنفسهم."
*د. عامر السبايلة ـ كاتب وأستاذ في الجامعةالأردنية