وانحياز قائمة مرشحي الليكود لانتخابات البرلمان الإسرائيلي 'الكنيست'، المقررة في 22 كانون الثاني (يناير) القادم، لصالح اليمين المتشدد، ليس المؤشر الأوحد الراهن على نزعة إقصائية 'للآخر'، ستجد ظهورها السافر مع تشكيلة الحكومة الجديدة التي تدور فلسفتها إزاء الشعب الفلسطيني حول القمع والترحيل، ولكنه عكسَّ الحضور القوي لانتصار المقاومة الفلسطينية وفشل الاحتلال في تحقيق أهداف عدوانه الأخير على قطاع غزة، عبر تصدر القائمة قادة الاستيطان والتهويد وحملة راية الدولة الدينية والسياسة التوراتية و'أرض إسرائيل الكاملة' ودعاة الهيكل المزعوم وتقسيم الأقصى ورفض الحقوق الفلسطينية، والذين سيوجهون 'بوصلة' المرحلة المقبلة نحو اليمين الأقصى والفاشية.
وحتى يكتمل المشهد اليميني بصورته القاتمة، فإن اللائحة الليكودية، التي تطوّي أسماءً عنصرية مثل موشي فايغلين الأشد كرهاً للعرب والمنادي بطردهم وإقامة 'إسرائيل الكبرى' والمنتقد لرئيس الوزراء الحالي بنيامين نتنياهو 'ليساريته!'، وبني بيجين، ابن مناحيم بيجين، ودان ميريدور الداعيان إلى هدم الأقصى وتنظيم حملات دورية لاقتحامه، ستنضم إلى تحالف 'الليكود بيتنا' (تحالف حزبي الليكود وإسرائيل بيتنا) الأشد تطرفاً من الليكود، لاسيما عند تحالفه مع الأحزاب الدينية والقومية المتطرفة، فيما تتنافس القوى الأخرى على التسابق مع التيار اليميني، بالارتكاز في قاعدتها الانتخابية على أجواء تزداد يمينية، بخاصة من تعتبر نفسها أحزاب يسار ووسط مثل 'يوجد مستقبل' بزعامة المتطرف بائير ليبيد، و'كديما' و'العمل'، الذي بات بزعامة شيلي يحيموفيتش أكثر يمينية، ووزيرة الخارجية والليكودية السابقة تسيبي ليفني التي أعلنت العودة للحياة السياسية بحزب جديد مناهض لنتنياهو.
وبرغم ما يشي هذا الحراك الانتخابي الإسرائيلي عن مؤشرات التوجه القادم، بخاصة تلك المتعلقة بمسار المفاوضات الذي سيجد العراقيل وانسداد أفقه السياسي، إلا أن التحولات والتنقلات الحزبية تتم دون إحداث هزّة في النظام السياسي للكيان الإسرائيلي، لأن معظم ذلك يجري داخل ألأيديولوجيا الصهيونية نفسها.
وما لم تحدث أي تطورات غير محسوبة حتى الموعد الانتخابي المحدد، فإن المعسكر اليميني المتطرف يكون قد عزّز موقعه في الانتخابات القادمة، وبات مؤهلاً لتشكيل الحكومة الجديدة، برئاسة نتنياهو، التي ما زالت استطلاعات الرأي الإسرائيلية ترجح مكانته المتينة للفوز، رغم فشل عدوان غزة. فالداخل الإسرائيلي يميل تاريخياً نحو اليمين، ويجمع داخله، بتياراته اليسارية والدينية واليمينية، حول 'لاءات' حق العودة وتقسيم القدس والانسحاب إلى حدود 1967 وإزالة الاستيطان. إلا أن التيار اليميني المتشدد يعرف تماماً سبل مخاطبة عنصرية الداخل وقلقه الدائم من وجوده غير الشرعي بأجندة أمنية تشغل مكانها التنافسي المريح أمام حملة اليسار الاجتماعية والاقتصادية، كما المشهد الانتخابي الراهن، بخاصة عند كل عدوان جديد يشنه الاحتلال، بحيث يطرحها بصيغة 'بوتقة صهر جمعي'، أسوة بوظائف الجيش والاستيطان والتعاليم اليهودية الدينية.
فالصهيونية تحمل في طياتها حتمية شن الحروب، التي تحولت إلى ظاهرة 'تلازم الفرد الإسرائيلي في مختلف مراحل حياته حدّ التعايش معها حياتياً، مثلما باتت عنده حقيقة موجودة أو كابوساً لا مفر منه، جعلته يعيش في حالة حرب دائمة مع العالم العربي الذي يحيط به، حتى وإن لم تكن قائمة فعلياً، مما أفقده حالة السلام والاستقرار'، وفق تعبير الكاتب الإسرائيلي مناحيم برباش (صحيفة يديعوت أحرونوت 17/6/2000)، فتحول الداخل الإسرائيلي بفعلها إلى ثكنة عسكرية تحظى فيها القيم العسكرية والنزعة العدوانية بالأهمية، في جو يشخّص فيه العربي عدواً، بالنسبة إليه، كما شكلت محوراً زمنياً تتحرك سلطات الاحتلال وفقاً له في كافة الجوانب الحياتية.
ودرج الساسة الإسرائيليون، منذ ما قبل قيام الكيان الصهيوني في العام 1948، على تنمية مشاعر القلق والخوف في الداخل الإسرائيلي من الشعب الفلسطيني، الذي يريد قتلهم والتخلص منهم، وفق الرواية الصهيونية، والتي من شأنها تسويغ وحشية الجرائم والمذابح التي ارتكبتها، وما تزال، سلطات الاحتلال ضد الفلسطينيين. إلا أن هناك نزعة أخرى أكثر عنصرية وتطرفاً تنبثق من بين براثن عدوانية الاحتلال لتنمّ عن الرغبة في الانتقام من 'الآخر' الفلسطيني العربي، وهي رغبة متأصلة في وجدان مغتصبي الأرض والحق بعد فشلهم في إنكار وجوده، ابتداءً، والقضاء عليه تالياً. ويحقق منطق الانتقام هدفاً أساسياً يرمي إلى كسرّ إرادة الشعب الفلسطيني وتصفية المشروع الوطني والقضاء على المقاومة، وفرض إملاءات التسوية وفق الرؤية الصهيونية، كما تجلت في الأهداف الإسرائيلية العلنية للعدوان الأخير على قطاع غزة، والمحاكية لمثيلتها في الحرب على غزة (27/12/2008 حتى 19/1/2009)، والتي تصدّت المقاومة الفلسطينية لها.
وبالنسبة لأكثر الساسة الإسرائيليين إعتدالاً، فإن الانتقام يعدّ أسلوباً للقضاء على المقاومة وحمل الفلسطينييين على القبول بحل لا يحقق الحدّ الأدنى من حقوقهم الوطنية، وفق رأي الكاتب الإسرائيلي يوري أفنيري، أما بالنسبة للمتطرفين فإن العنف يستهدف حمل الفلسطينييين على الرحيل، أي ما يسميه حزب موليديت 'الترانسفير الطوعي'، أو أن يؤدي إلى تصعيد ينتهي بعملية تطهير عرقي على نطاق واسع.
وفي محصلة كلا الهدفين، فإن المؤشر يتجه نحو مزيد من اليمينية، وفق افنيري، الذي يقول (في مقال سابق نشر العام 2007) 'لم تعد 'نجمة داوود' (التي تُسمى بالعبرية 'درع داوود') هي رمز 'دولة إسرائيل'، وإنما الجرافة 'البيلدوزر'، التي لها الكلمة العليا في إسرائيل نفسها: تتحكم كما تشاء دون أي اعتبار لشيء'.
بيدّ أن الذراع القوية لجيش الاحتلال، التي طالما جرى التغني بها إسرائيلياً، أخفقت في حماية المستوطنين وتوفير الأمن المطلق لهم، خلال انتفاضتي 1987 و2000 ومتوالية عمليات المقاومة، كما حدث مع صواريخ المقاومة في غزة، مما خلق إشكالية 'ردع' جديدة، كان الاحتلال يسعى لتعزيز قوتها من خلال عدوانه على القطاع، بعدما اهتزّت ومن ثم تآكلت عقب الانسحاب من جنوب لبنان في العام 2000 وفشل تحقيق أهداف العدوان على أراضيه في العام 2006 تماثلاً مع نواتج حرب غزة 2008/2009، وبحسابات أخرى منذ حرب عام 1973 واجتياح لبنان عام 1982، بينما عجزت القوة العسكرية المدججة بأحدث أسلحة القتل والدمار وأدق وسائل الرصد والمراقبة وجمع المعلومات عن محق مقاومة لا تساويها في القدرات العسكرية ولكن تتفوق عليها بقوة إرادة الحق، بما أوجد ثغراً في العمود الفقري للكيان الصهيوني ومصدر شرعية وجوده، تسبب في إفشال ترسيخ وجوده بالمنطقة وإخضاع الشعب العربي الفلسطيني لمشيئته رغم ما حققه من توسع بقوة السلاح وما قدمته بعض الأطراف العربية من تنازلات لإحلال السلام، خلف ستار 'الاعتدال' و'الإقرار بالأمر الواقع'.
إذا كان المزاد الانتخابي لم يغبّ عن دائرة أهداف العدوان، في محاولة من الليكود والأحزاب اليمينية المتطرفة لكسب المزيد من الأصوات على وقع التدمير والقتل والتخريب، فإن نواتجه ستجد حضورها، أيضاً، في حكومة إسرائيلية جديدة، أكثر تطرفاً وعنصرية ومناهضة للحقوق الفلسطينية العربية المشروعة.
*د. نادية سعد الدين