يقول معارضو 'دولة بصفة مراقب' إنها دولة على الورق. اجل، إنها لكذلك اذا لم تبادر الى ممارسة ما تمتلكه من صلاحيات وسلطات، فهل تفعل؟
لنرَ، اولاً، ما هذه الصلاحيات والسلطات التي تمتلكها. ثم لنرَ، ثانياً، ما يكتنف الدولة الوليدة من تحديات ومعوقات وحساسيات.
انه لحدث رمزي ان تكتسب فلسطين صفة الدولة في يوم اعلان وعد بلفور المشؤوم (29 تشرين الثاني/نوفمبر) بعد 65 عاماً على صدور قرار الامم المتحدة 181 سنة 1947 القاضي بتقسيم فلسطين بين العرب واليهود. صحيح ان الإعتراف الاممي بدولة فلسطين لا يمنحها صفة العضوية الكاملة في الامم المتحدة، إلاّ انه يمكّنها من التمتع بحقوق العضوية جميعاً بإستثناء حق التصويت في الجمعية العامة وحق العضوية في مجلس الامن.
ابرز مزايا العضوية غير الكاملة الحقُ في الإنضمام الى المواثيق والمنظمات الدولية كالميثاق العالمي لحقوق الإنسان ونحو ثلاثين منظمة ووكالة دولية متفرعة عن الامم المتحدة.
ينشأ عن هذه المكانة مفاعيل شتى:
ندّية سياسية تجاه الكيان الصهيوني في المحافل الدولية.
تفعيل المقاطعة الاهلية القائمة ضد الكيان الصهيوني في دول الغرب.
تحويل المناطق التي يسيطر عليها الكيان الصهيوني في الضفة الغربية والقدس الشرقية بموجب اتفاقات اوسلو من 'اراضٍ متنازع عليها' الى اراضٍ محتلة وفق القانون الدولي.
تعزيز المركز التفاوضي للفلسطينيين تجاه الكيان الصهيوني على صعيد المسائل الجوهرية كالحدود والقدس والمستوطنات إذ لم تبقَ هذه المسائل موضع مساومة بعد تكريس الحقوق السيادية التي منحتهم اياها الشرعية الدولية.
الحق بالسيادة على الارض والمجالين الجوي والبحري والتقاضي نتيجة الإنضمام الى منظمة الطيران المدني الدولي (IATA) واتفاقية قانون البحار ونظام المحكمة الجنائية الدولية .
الحق في مقاضاة الكيان الصهيوني امام المحكمة الجنائية الدولية بسبب عمــليات الإستيطان التي يعتبــــرها نظــــام المحكمة جرائم حرب لكونها ادت الى نقل سكان من والى اراضٍ محتلة، وملاحقة جنرالات الجــــيش الإسرائيلي لإرتكاباتهم ضد المدنيين الفلسطينيين في المناطق المحتلة.
الحقيقة ان بعضاً من هذه الحقوق كان في وسع منظمة التحرير الفلسطينية ممارسته في الماضي لكنها لم تفعل. فالمنظمة، بوصفها الممثل الشرعي الوحيد للشعب الفلسطيني، لم تُحسن استثمار الرأي الإستشاري الصادر عن محكمة العدل الدولية بشأن الجدار العازل (طوله 782 كيلومتراً) وما يشكّله من إفتئات على حقوق الفلسطينيين، ولا استثمرت تقرير لجنة غولدستون لصالح القضية. كذلك لم تنظم حملة ملاحقة من قبل المتضررين الفلسطينيين ضد مجرمي الحرب الإسرائيليين امام المحاكم الوطنية ذات الإختصاص الدولي في دول اوروبية عدّة. اليوم اصبح في وسع دولة فلسطين المعترف بها اممياً ملاحقة منتهكي حقوقها وحقوق مواطنيها، فهل تفعل؟
غير ان ثمة اشكالات عدّة تكتنف الإعتراف بفلسطين دولةً غير كاملة العضوية، ابرزها خمس :
أولاها ما يتعلق بأقليم الدولة. هل يقتصر اقليمها على الضفة الغربية وقطاع غزة مستثنياً سائر مناطق فلسطين المحتلة ؟
ثانيتها ما يتعلق بشعب الدولة. هل يقتصر شعبها على سكان الضفة والقطاع ام يشمل ايضا الفلسطينيين داخل الكيان الصهيوني وسائر الفلسطينيين في شتاتهم
ثالثتها ما يتعلق بحق التمتع بجنسية الدولة.
هل تكون الجنسية من حق فلسطينيي الضفة وغزة ام تكون ايضاً من حق الفلسطينيين في كل الاراضي المحتلة وفي الشتات؟
رابعتها ما يتعلق باللاجئين الفلسطينيين ورعايتهم سواء الذين يسكنون الضفة والقطاع او الذين يتوزعون على المخيمات في الشتات. هل ستكون دولة فسلطين هي المسؤولة عن رعايتهم ام يبقون تحت رعاية وكالة الغوث (الانروا) بموجب اتفاق خاص مع دولة فلسطين الوليدة ؟
خامستها ما يتعلق بتقرير المصير وحق العودة. هل يعني الإعتراف الاممي بفلسطين وفق 'حدود' سنة 1967 ان مصير فلسطين وشعبها يكون قد تقرر في نطاق الاراضي التي يسكنها الفلسطينيون حالياً في الضفة والقطاع وانه لا يشمل كامل اراضي فلسطين التاريخية وسكانها؟ ثم ماذا عن حق تقرير المصير بالنسبة لمجتمعات الشعب الفلسطيني داخل الكيان الصهيوني وفي الشتات؟ ان تقرير المصير حق غير قابل للتصرف ولا يمر عليه الزمن، فهل يُعقل ان تتهاون دولة فلسطين الوليدة في صون حق الفلسطينيين عموماً واينما كانوا في تقرير المصير؟
أهم من ذلك كله: ما مصير حق العودة؟ انه حق جوهري واساسي وهو لبٌّ قضية فلسطين ومحورها، فهل يعني الإعتراف بفلسطين دولة غير كاملة العضوية في نطاق الضفة والقطاع إنتفاء حق فلسطينيي الشتات بالعودة الى ديارهم وبيوتهم؟
الى ذلك، ثمة اشكالات سياسية قائمة واخرى قد تقوم بين الفلسطينيين انفسهم، ولا سيما بين فصائلهم واحزابهم بعد الإعتراف الاممي بفلسطين، وكذلك في سياق رسم السياسات الرامية الى استكمال تنفيذ المشروع الوطني الفلسطيني. فمنظمة التحرير معطلة ولا تمثل، في الواقع، كل شرائح الشعب الفلسطيني وفصائل المقاومة. فهل يعقل ان تبقى المنظمة معطلة وغائبة؟ وما الاسس التي يقتضي اعتمادها لإعادة تنظيمها وتفعيلها؟ وهل تتوافق مختلف الفصائل والاحزاب على اعادة النظر في وضعها بالسرعة المرتجاة؟
السلطة الفلسطينية غير فاعلة، وخصوصاً بعد انتهاء ولاية رئيسها محمود عباس، وتعذّر إجراء انتخابات تشريعية، وتصدّع شرعيتها بصدور القرار الاممي بالإعتراف، وسقوط 'شرعية' اتفاقات اوسلو جرّاء الإستيطان الصهيوني.
كل هذه التساؤلات تطرح مجدداً وبقوة مسألة المصالحة الوطنية التي طالت المماحكات بشأنها ما عمّق حال الإنقسام في صفوف الشعب الفلسطيني، فهل تبادر فصائل المقاومة والاحزاب السياسية والقوى الحية الى التوافق على اعتبار المصالحة الوطنية اولوية مطلقة في هذه الظروف العصيبة؟
إن التوافق على اولوية المصالحة وانجازها يتطلبان التوافق اولاً على اسسها. في هذا المجال تبرز قضايا ثلاث اساسية:
أولاها خيار المقاومة. يقتضي ان تتوافق الفصائل الفلسطينية على اعادة الإعتبار للمشروع الوطني الفلسطيني بما هو مشروع تحرير كامل ارض فلسطين من النهر الى البحر، والعودة بما هي حـــــق غـــير قابل للتصرف ولا يمر عليه الزمن، والمقاومة بكل وجوهها واشكالها بما هي طريق التحرير والعودة وبناء الدولة السيدة المستقلة. بذلك تتخصص الدولة بالسياسة والمقاومة بالتحرير.
ثانيتها المفاوضات مع الكيان الصهيوني. ذلك ان السلطة الفلسطينية برئاسة محمود عباس كانت اسقطت خيار المقاومة واعتمدت المفاوضات طريقاً وحيدة لتحقيق 'حل الدولتين'. لكن حكومة نتنياهو اسقطت بالإستيطان المتمادي حل الدولتين كما اسقطت بتدابيرها الامنية والمالية التعسفية اتفاقات اوسلو، فهل يعقل ان يبقى اركان السلطة الفلسطينية وقيادات حركة 'فتح' متمسكين بأحادية نهج المفاوضات غير المجدي وطنياً وسياسياً؟
ثالثتها نهج التعاطي مع تيار الإسلام السياسي الذي يعصف بالمنطقة بعدما تمكّنت بعض تنظيماته في مصر وتونس وليبيا من الوصول الى السلطة، بينما بعضها الآخر يقود في سوريا معارضة مسلحة ضد النظام القائم. هل ستعتمد فصائل المقاومة الفلسطينية الإسلامية، وهي في صلب الدولة الوليدة المعترف بها اممياً، المعيار الديني والايديولوجي في تحديد العلاقات مع الاوضاع المستجدة في الدول سالفة الذكر ام انها ستضع في حسبانها ايضاً المعيار السياسي والاستراتيجي الواقعي فلا تجافي دولاً وقوى داعمة للمقاومة الفلسطينية كالجمهورية الإسلامية في ايران وحزب الله في لبنان؟
الفلسطينيون وقادة المقاومة جميعاً باتوا على المحك وفي امتحان عسير.
* د. عصام نعمان - القدس العربي