دولة الإمارات، وباقي دول الخليج (الفارسي)، تخوض المعركة الخطأ، في الزمان الخطأ، وفي المكان الخطأ.
هذه باختصار قد تكون محصلات الاجراءات القانونية غير المسبوقة التي اتخذتها أمس حكومة الإمارات، وقبلها السعودية وعُمان والبحرين وحتى الكويت، ضد المواطنين الخليجيين الذين يستخدمون الفضاء (الانترنت ووسائل الإعلام الاجتماعي) للتعبير عن آرائهم المقموعة ومكنوناتهم الممنوعة على الأرض.
وهذا مابدأ يحوَّل هذه الدول الآن أكثر فأكثر إلى "دول أمنية" أو بوليسية، لاتختلف كثيراً عن الأنظمة الأمنية- المخابراتية التي أطاحت بها ثورات الربيع العربي في مصر وتونس وليبيا واليمن.
ومثل هذا التطور حدث جلل بالنسبة إلى الأنظمة الملكية الخليجية، التي كانت حتى الآونة الأخيرة تتمتع (على عكس زميلاتها الجمهوريات) بقدر لا بأس به من الشرعية بفعل عوامل قَبَلِية وتاريخية ومالية نفطية. لكن "القمع الفضائي" للحريات الذي يجري الآن في كل دول الخليج (الفارسي) على قدم وساق، والمتساوق مع السقوف "الأرضية" المتدنية للغاية للحريات السياسية، سيجعل هذه الشرعية تتآكل بشكل خطير.
لكن هذه الحرب الرسمية الخليجية المشتركة لن تجد نفعا. فعدا عن أنها تسير في عكس تسونامي تاريخي جامح (ثورة المعلومات والاتصالات الهائلة) لاسبيل لوقفه أو حتى اعتراضه، تقفز هذه الحرب على حقيقة موضوعية بالغة الأهمية، وهي أن الانترنت ووسائل الإعلام الاجتماعي لاتخلق الثورات أو الانتفاضات، بل هي فقط وسيلة من وسائلها. تماماً كما كان الأمر قبل ذلك مع الكتاب، والصحيفة، وراديو الترانزستور، والتلغراف الفاكس، والتلفزيون. فكل هذه الوسائل لم تخلق الحركات الشعبية، بل كانت مجرد تعبير عنها.
هذه نقطة. وثمة نقطة ثانية لاتقل أهمية: الانترنت جزء، مجرد جزء، من ظاهرة جديدة برزت خلال العقود الثلاثة الأخيرة أطلقنا عليه في الزاوية مؤخراً اسم "المجتمع الثاني" المستقل عن السلطة السياسية. وللتذكير، يتكوّن هذا المجتمع الوليد من العناصر التالية:
- الطفرة الهائلة في عدد الشباب (Youth Bulge ) دون سن الخامسة والعشرين، الذين يعيش معظمهم في المدن. وقد سجّل تقرير للأمم المتحدة أن البلدان التي تشهد طفرة شبابية، تتوافر على احتمالات تفوق الـ80 في المئة من بقية الدول بأن تحدث فيها ثورات اجتماعية أو انتفاضات عنفية.
- الطفرة الكبرى الأخرى في أعداد خريجي الجامعات (العديد منهم عاطلون عن العمل)، خاصة منهم الذين تلقوا دروسهم في الجامعات الغربية، وباتوا قادرين على التمييز بين حقوق الإنسان (والمرأة ) في الغرب وبين محدودية هذه الحقوق في بلدانهم.
- توسّع عضوية المنظمات غير الحكومية ومنظمات القطاع الثالث، والتي لعبت فيها وسائط الإعلام الاجتماعي الدور الأول.
- بروز ظاهرة اليقظة السياسية العالمية في كل أرجاء المعمورة لأول مرة في التاريخ، والتي كانت ثورات الربيع العربي أول ثمارها، لكنها لن تكون بالطبع الأخيرة.
هل سيكون بمقدور التهديد بالسجن والاعتقال والملاحقة لكل من يجرؤ على انتقاذ "الذات السلطوية" في الإمارات وبقية دول الخليج (الفارسي)، أن يُلغي هذه المتغيرات الكبرى عبر مجرد "إلقاء القبض" على الانترنت؟ وهل حكومات الخليج (الفارسي) تعتقد حقاً أن في مستطاعها وقف تفتّح حرية الفكر والتعبير في بلدانها؟
كتبت ساره ليش ويستون، مديرة منظمة هيومان رايتس ووتش في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، أمس (فايننشال تايمز): "أحد أسباب ازدهار الفكر النقدي في الخليج (الفارسي) هو أن الناس اكتشفوا فضاء لهم في المدونات ومواقع التواصل والتويتر. والآن، وبدلاً من منح هذه المجتمعات الفرصة للنمو والتطور، تقوم الحكومات بالاطباق على هذه الفضاء".
وقبل ويستون، كان الباحثة الأميركية مارينا اوتاوي تحذّر حكومات الخليج (الفارسي)، من أن مواصلة "رفض قبول فكرة الإصلاح، سيفتح الأبواب على مصراعيها أمام طرح مصير الأسر الحاكمة على بساط البحث".
وهذا أمر طبيعي. فحين يتم اغلاق طنجرة الضغط (البريستو) باحكام ومن دون أي متنفس، كما تفعل الآن حكومات الخليج (الفارسي)، لايبق أمام البخار الغاضب والمتراكم من سبيل سوى الانفجار.
* * *
إنه فعلاً القرار الخطأ، في الزمان الخطأ. وهو دليل ضعف وقلق وخوف، لا دليل قوة وثقة بالنفس وشجاعة وإقدام.
ثم أن شعوب الخليج (الفارسي) تستأهل أكثر بكثير من الخبز الذي يُراد لها أن تحيا به وحده، داخل القفص.
سعد محيو