وصولُ أسلحة أردوغان إلى عدن , وتجرؤه على اليمن , أعاد إلى ذاكرتي بالتداعي قصة جدّي وإخوته الذين كانوا رعايا في سلطنة العثمانيين .
كانوا أربعة طالهم النفير للحرب العالمية الأولى من بين خمسة إخوة :
- أصغرهم هجرس أخذه العثمانيون إلى جبهة سيناء بمواجهة اللنبي ومن معه من حلفاء , وعلمنا بأمر استشهاده وهو يذود عن حياض السلطنة .
- أخوه عبد الله أخذه العثمانيون إلى جبهة اليمن , وانقطعت أخباره , فلا نعلم شيئاً عن مصيره .
- جدّي عبد الرحمن أخذوه إلى الشمال , وشارك بالحرب حتى انتهت بالهزيمة وعاد إلى بيته .
وعاش ليحدثنا نحن أحفاده بما رأى . ولم يخطر ببالي مطلقاً – وقد كنت طفلاً - أنّ حديثه يمثل شهادةً تاريخية ذات أهميّة تستوجب التسجيل والتوثيق . فقد كان يحدثنا عن معركة حاصروا فيها مدينة يقطنها قوم كان يطلق عليهم تسمية " الأرمل " , وكيف أن " الأرمل " هزموا فنكل بهم العثمانيون شرّ تنكيل , حيث كانوا يقتلون الرجال جميعاً دون استثناء ويستحيون النساء , ولكن بعد تفتيش حتى الأعضاء التناسلية للنساء بحثاً عن الذهب خشية أن يقمن بالهروب ومعهن شيء من تحويشة العمر , مما يعني أن سلطنة آل عثمان في آخر أيامها لم تكتف بقتل الأرمن بل ونهبت ما بقي معهم من مال .
وقدّر لي منذ سنوات أن أزور لواء اسكندرون . وتكرّم مستضيفونا باصطحابنا في رحلة اطلاعية إلى جبل موسى حيث توجد كنيسة أرمنية , وبقايا مدينة . وحين وقفت أتفرّس في جغرافيا المكان بدا لي أنه الموقع الذي كان جدّي قد أجبر على أن يحارب فيه " الأرمل " بعد أن بتّ أعرف أنهم الأرمن . لكن تخميني قد لا يكون دقيقاً بالضرورة . ففي زيارة سابقة لي إلى رأس العين في محافظة الحسكة جلسنا عند نبع الخابور , وعلمت أن الأرمن في تلك البقعة لا يأكلون السمك الذي يتواجد في النبع وفي النهر بكثرة , لأنهم يعتقدون بأنه ما زال يحتفظ ببقايا لحم أجدادهم الذين قتلهم العثمانيون وألقوا بجثامينهم في النبع لتكون طعاماً للأسماك .
والغريب أن السلطان أردوغان المتنور يرفض الاعتراف بالمجازر التي ارتكبت ضدّ الأرمن ربما حتى لا يطالبه أحد بالتعويض عن القتلى وبإعادة ما نهب من الأموال والذهب . والأغرب أن المسلحين الذين يقف من ورائهم أردوغان ارتكبوا مجزرة مشابهة في حماة , وألقوا بجثث ضحاياهم في نهر العاصي لتكون طعاماً للأسماك . وما هو أغرب وأغرب أن يتعرّض أهالي رأس العين خلال الأيام الماضية لهجمة أردوغانية تكرر ما فعله أجداده منذ حوالي قرن من الزمن . والله وحده يعلم كم من أهلها بما فيهم بعض الأرمن تعرضوا للقتل وألقيت جثامينهم في نهر الخابور ليكونوا طعاماً للأسماك , مما يجعل جميع السوريين يشاركون الأرمن في الامتناع عن أكل أسماك النهر التي أكلت لحم أهلهم .
- الأخ الرابع كان محمد أبو غنيم { الكبير } . وقد اختار أن يتمرّد , فرفض الالتحاق بالجيش العثماني . وسجّل حالة فرار متخذاً من جبل أبو غنيم جنوبي القدس حصناً له ممارساً دور قاطع الطريق .
وما إن وصل اللنبي إلى القدس حتى تحوّل إلى ثائر يشن الهجمات المتواصلة على الانجليز وانضم إليه العديد من الثوار . فكان أول من أطلق النار على المستعمر البريطاني في فلسطين . ولا مجال هنا لسرد قصته , ولكنه بعد أن نجح الانجليز في القبض عليه بالحيلة , وتعذّر عليهم إعدامه غيلة بسبب علاقته مع عشائر بني صخر في شرقي الأردن مهدّدين الانجليز ومتوعدين , حكم عليه بالسجن المؤبد , فأمضى فترة من الزمن في السجن ثم خرج إلى الحياة وعاد إلى حمل السلاح والقتال ضد الانجليز واليهود حتى كانت النكبة . وعاش طويلاً بعد ذلك إلى أن توفي في مخيم البقعة بعمان , فأثبت في قصته أن التمرد والثورة والكفاح سبيل إلى الحياة .
قصة هؤلاء الإخوة تلخّص الحرب العالمية الأولى ومأساة العرب فيها . فمن يدري إذا كان هجرس قد استشهد برصاص الانجليز أو برصاص عرب الشريف حسين الذين جندوا في خدمة الانجليز على وعد نيل استقلالهم والسلطان فيما أسموها بالثورة العربية الكبرى وخدعوا , وإذا بوعد استقلالهم يتحوّل إلى وعد بلفور ؟ . ومن يدري إذا كان عبد الله قد استشهد برصاص خصوم العثمانيين أم أنه اختار التمرد على السلطان العثماني وشق لنفسه طريقاً في الحياة في اليمن بعيداً عن الوطن ؟ . وأما مأساة عبد الرحمن فتتمثل في أنه زجّ ليكون شاهداً في مذبحة ضدّ " الأرمل / الأرمن " لا ناقة له فيها ولا جمل . ويبقى خيار محمد أبو غنيم { بطل جبل أبو غنيم } هو الخيار الوحيد الخارج عن العبثية الاستعمارية , لكنه أيضاً يعكس الانقسام الذي كان قد حصل حتى داخل العائلة الواحدة مثل الانقسامات التي تحدث الآن بسبب المؤامرة التي يشارك في إدارتها أردوغان .
لعل السؤال الكبير الذي يخطرُ بالبال الآن هو التالي : ألا يعقلُ بأن تكون الوعود المزجاة إلى رجب طيّب أردوغان مماثلة للوعود التي أعطيت لشريف مكة في أن يتزعم الدولة العربية المشرقية بعد تحقيق استقلالها عن العثمانيين ؟ أو أن تكون هذه الوعود مثل تلك التي أزجيت لصدام حسين لتحريضه على خوض الحرب ضد إيران { دفاعاً عن البوابة الشرقية } ثم نكص عنها أصحابها بعد ذلك وأنشبوا مخالبهم فيه إلى أن أعدموه ؟ .
إن ما نحن على ثقة منه هو أن الصلف الصهيوني الماكر والصلف الامبريالي الجائر لن يسمحا بتوحيد المنطقة فعلياً لا تحت زعامة أردوغان ولا تحت زعامة سواه من أبطال الصلف الرجعي الفاجر , وأن كلّ ما يسعون إليه هو أن يقوّضوا عناصر القوة في المنطقة بحيث تصير سهلة الأخذ من قبل الصلفيين الصهاينة والامبرياليين , تماماً مثلما حدث خلال الحرب العالمية الأولى حين أحدثوا الشرخ بين العرب وبين الأتراك العثمانيين , فأزالوا السلطنة العثمانية , وصادروا حلم العرب بالاستقلال , وقاموا بتقسيم الوطن العربي , وساعدوا ملك الرمال عبد العزيز آل سعود في مواجهة شريف مكة الموعود , وانتهى شريف مكة الموعود مبعداً أو منفياً إلى قبرص . وأسسوا على أرضية هذه التغييرات لقيام الكيان الصهيوني في فلسطين .
قد يكون بوسعنا أن نصدّق بأن خالد مشعل صادقٌ فعلاً في مبايعته لأردوغان , فمن يكون طموحه إقامة إمارة حماس في غزة – ولو كهدف مرحلي – سيرى في مبايعة الباب العالي في أنقرة وسيلة – ربما كانت معقولة - لفك الحصار عن الإمارة في غزة , بغض النظر عن بقية الحسابات المعقدة المتعلقة بقضية فلسطين . ولكن كيف نفهم أن يقبل الملك السعودي أو الرئيس المصري أو أي حاكم عربي آخر الذهاب إلى هذه البيعة لأردوغان بكل بساطة ؟ .
إن ما يحدث في الوطن العربي الآن ليس تجميعاً بل فرطاً " لحبّة الرمّان " . وأمامنا نموذجا الصوملة والسودنة اللذان تجري محاولة نقلهما إلى أقطار أخرى مثل مصر وليبيا وتونس واليمن وسوريا .. والحبل على الجرار . ولا نظنُّ أنّ هذا كله يتم من أجل عيون أردوغان أو في سبيل إحياء سلطنة آل عثمان . فما من سلطان في الوطن العربي – ومهما كان حجم انخراطه في المؤامرة – مستعد أن يتحوّل إلى تابع . حتى حاكم مشيخة قطر التي هي " ميني دولة " أقنعوه بأن اللعبة التي ينخرط فيها ستكفل له التحول من مشيخة إلى مملكة وعلى حساب حلفائه وجيرانه الأقربين آل سعود , فهو لا يتابع التآمر وإنفاق المال وممارسة التضليل من أجل عيون أردوغان بل من أجل عيون نفسه . وهنا يتساءل المرء : وماذا عن آل سعود ؟ . هل هم يتصرفون تصرّف العبطاء أو المغفلين أم أن لهم وعدهم غير المعلوم ؟ .
دعونا نتذكر أن الشريف حسين استغفل من قبل ووعد بالسلطان , وأن مؤسس مملكة آل سعود مارس لعبة التآمر مع كوكس ولورنس ضد الشريف حسين الذي استغفل , وهم يتعاملون الآن مع مؤامرة يعلم الله وحده بغاياتها الحقيقية سواءٌ تجاههم أو تجاه أردوغان أو تجاه أيّ طرف آخر . ولكن لا بد وأن يكون الصلفي الأمريكي الجائر قد أقنع كل طرف بسيناريو ما يحفظ له مصالحه وأكثر , وعمّى على أعينهم حتى لا يروا حقيقة المصير المرسوم للجميع , فظن كل منهم أن اللعبة تتم لحسابه , وليس على حسابه .
لا ريب أن سلوك أصحاب الصلف الفاجر من الرجعيين أعراباً وأغراباً في المنطقة يعكس حالة انعدام الفهم لحقيقة ما يدبّر , أو انعدام القدرة على التمرّد على التعليمات التي تأتيهم من علٍ . فالحقيقة المرّة هي أنّ الأمور تتم لصالح أصحاب الصلف الماكر والصلف الجائر , بينما أصحاب الصلف الفاجر مجرد أدوات طيّعة يمكن استخدام بعضها في اللعب ثم تلقى بعد ذلك بعيداً ما لم تشيّع إلى القبر .
ربما قيل : كيف نصنّفُ وضعهم على هذا النحو إذا كانوا خاضعين مسبقاً لأصحاب الصلف الماكر والجائر ؟ . ونقول : أما كان زين العابدين بن علي وحسني مبارك خاضعين للغرب سائرين في فلكه ؟ . ألم يأتِ استهداف القذافي بعد أن حاول إرضاء الغرب بكل السبل والوسائل ؟ . فبماذا يختلف وضع أصحاب الصلف الفاجر الآخرين عن أوضاع هؤلاء ؟ . هم أيضاً يمكن أن تصدر الأحكام بإعدامهم سياسياً أو جسدياً إذا تطلبت المصلحة الاستعمارية والصهيونية ذلك . ولا توجد عند أصحاب الصلف الماكر والجائر " ذقونٌ ممشطة " .
لقد جرفت مجرفة الربيع الأميركي العديد من الرؤساء التابعين لأميركا في طريقها للوصول إلى سورية , ولما هو بعد سورية . واستهدافهم لسورية ليس نهاية المطاف , بل هو جزء من المرحلة الأولى للخطة الجهنمية التي تشمل المنطقة بكاملها , بل والعالم بأسره . ولمن يشك في صحّة هذا التحليل نقول : انظروا إلى ما يحدث اليوم في مصر وليبيا وتونس بين من أعطتهم أمريكا صفة " الإسلام المعتدل " وبين الصلفيين الذين يدّعون أنهم سلفية مجاهدة من القاعدة وغير القاعدة لتروا أن مشاهد الفيلم الذي يجري تمثيله على أرض الواقع لم تكتمل بعد . فصعودُ بطل على حساب بطل لا يعني أن الصراع اكتمل لأنّ من يعتبر نفسه " بطل الأبطال " ينتظر اللحظة المناسبة التي ينقضّ فيها على الجميع . و" بطل الأبطال " هذا هو الصلف الماكر وليس الصلف الفاجر . وعندها فقط سيكتمل " الربيع " .
فلا يغرننا أن نرى الآن في سوق النخاسة والنجاسة من يشتري أو يبيع , فما هو إلا زبون لحظة عابرة في مسار الصراع . إنهم يحرثون على ظهر البعض ثم يقذفونهم مثلما تقذف النواة من التمرة . وهم بحاجة الآن إلى الدور الذي يلعبه أردوغان في التآمر على سوريا بالذات , ولكن متى انتفت هذه الحاجة لسبب أو لآخر , فإن وعدهم له سيسحب مثلما سحب الوعد من الشريف حسين . فالذين فككوا السلطنة العثمانية قبل حوالي مائة سنة لن يسمحوا بعودتها إلى الحياة الآن .
والذين منعوا العرب من إقامة دولة واحدة مستقلة بزعامة حليفهم الشريف حسين وخذلوا هذا الحليف سيخذلون أردوغان أيضاً الآن . وهذا الخذلان سيحدث في حالة نجاح مؤامرتهم في كل فصولها , فكيف إذا ما أفشلت سوريا بالذات أهم هذه الفصول وقلبت السحر على الساحر ؟ .
إن الوعد لأردوغان – إن صحّ أنه موجود - هو وعدٌ مكذوب , ليس لأنه شخصياً غير مرضيّ عنه أمريكياً وإسرائيلياً , ولكن لأن وحدة المنطقة – وعلى أيّ مستوى كان – تعتبر خطراً على المشروع الصهيوني . ومن هنا فإن أردوغان إذ يتصوّر إمكانية تحوّله إلى سلطان وامتداد سلطانه من تركيا إلى موريتانيا – باستثناء ما تسيطر عليه إسرائيل سيطرة مباشرة - إنما يعيش وهماً خدّاعاً . فالقوى المعادية لا يمكن أن تمكن أحداً أياً كان من تحقيق هدف الوحدة في المنطقة على أي مستوى كان . والدليل الحي على صحّة ذلك ما نحن فيه الآن .
فالمخطط التآمري الراهن يتمثل هدفه الفوري والمباشر في تقويض محاولة التشبيك الاقتصادي بين دول المنطقة , والذي كانت تركيا وسوريا وإيران والعراق تشكل أهم أطرافه . وإذا كان البعض يعتقدون بأن جماعة الإخوان المسلمين والحركات التي في حكمها يمكن أن تنجز هدف توحيد المنطقة , وأن أردوغان يراهن عليها أن تبايعه , فإن هذا الاعتقاد لن يكون صحيحاً إلا في حالة القدرة على تحدّي أميركا وإسرائيل وقهرهما , وليس على قاعدة التفاهم معهما أو الولاء لهما . ومن المؤكد أنه يوم يقوم أيّ زعيم في المنطقة بقهر إسرائيل وتحرير بيت المقدس فإن كل الجماهير الشعبية في المنطقة ستبايعه بالزعامة . فإذا كان أردوغان يسعى إلى السلطان , فإن الطريق الوحيد إلى هذه الزعامة هو الطريق إلى تحرير بيت المقدس .
ونحن نعرف أن تحرير بيت المقدس يعني تحرير فلسطين . وتحرير فلسطين يعني زوال الكيان الدخيل الذي يتطلب استمراره الحيلولة دون وحدة المنطقة . أما أن يفكر أردوغان بنيل منصب السلطان من خلال طعن سوريا ومحور المقاومة , والتعاون مع الكيان الصهيوني , والتبعية لأميركا , فهذا يعني أنه يحلم بالمستحيل . إنه قد يمكن الصهاينة من إقامة " إسرائيل الكبرى " لكنه لن يحصل بالمقابل على " السلطنة الإسلامية أو العثمانية الكبرى " .
بل إن كيان تركيا نفسها قد يكون عرضة للتفكيك حتى تكف عن التفكير بمثل هذا الحلم الذي يمكن أن يزعج إسرائيل الكبرى في وقت ما .
*عبدالرحمن غنيم - اسلام تايمز