فإذا كانت هذه اللحظة مفهومة في عرف التاريخ، حين يكون أولئك أول ضحايا الفشل، فإنها كانت عاصفة وقاصمة في توقيتها، وقدمت في مضمونها رسائل كان من الصعب عليهم فهمها، ومفاجئة في الشكل والإخراج، كان من العسير عليهم هضمها.
الجميع يدرك - وحتى الإدارة الأميركية نفسها - بأن فشل النسخة الأساسية المتداولة من حرب تخوضها بالوكالة يقتضي بالضرورة تغييراً في الأدوات، أو تبديلاً في الوسائل، لكن الصدمة لدى أدواتها وأصدقائها وحلفائها كانت أن يبدأ الانقلاب الأميركي في التوقيت الصعب والخطير بالنسبة لهم ولها، وأن تكون البداية من تغيير الوجوه والشخصيات ما يمهد لاحقاً لتعديل يطول بالضرورة الدول والقوى والأطراف.
لكن، هذا كله قد لا يعطي التفسير المنطقي لدوافع «الانقلاب» الأميركي إذا لم يقترن بقراءة دقيقة للمعطيات وفي المقدمة مواصفات النسخة الأميركية المعدلة من حربها تلك، خصوصاً مع التباينات الطافية على السطح في تقييم الأداء الأميركي عموماً، والملاحظات الكثيرة المسجلة من قبل حلفائها قبل غيرهم.
فالرهان على ما سمي اصطلاحاً خاطئاً بمعارضة الخارج، اصطدم منذ البداية بمغالطات، أطاحت بكل الآمال الكاذبة التي بنتها هي وكل أدواتها، ما دفع بها إلى إعادة التصويب على ما ادعته شخصيات الداخل بشقيها المسلح والآخر الذي كان ينتظر الإشارة الأميركية منذ زمن بعيد.
وترافق ذلك مع تسويق مسبق لم تكن خارجه بعض الأجندات المخفية في غمز من قناة المبعوث الدولي، أو على الأقل توظيفها في بند تم تحميله في بعض المصطلحات والمسميات التي أطلقها بما يتوافق مع المسعى الأميركي، بحيث تمهد عملياً للبدء بالنسخة المعدلة من الحرب الاميركية في مرحلتها الثانية، حين صرف الاهتمام عن دور الدول المتورطة إقليمياً وعربياً في تسليح الإرهابيين، مقابل تركيز غير «بريء » على تعويم المسلحين وهو ما استُشفَ منه تعديل في أولويات الاعتماد الأميركي على «مرتزقة» الداخل بدلا من «عملاء» الخارج.
المفارقة أن تبرر واشنطن ذلك المسعى بما اكتشفته من أن بعضاً ممن اعتمدتهم في أجنداتها الخاصة، كمعارضين ورموز لهذه المعارضة، لا يعرفون الواقع السوري ولا يرتبطون بالداخل، فتحملهم تبعات الفشل حتى الآن، وتحاول تبرئة نفسها من تبعاته.
والنقطة الأكثر إثارة ان يتركز البحث الأميركي في توقيت الانشغال بالبازار الانتخابي عمّا سمته اعتباطياً ممثلين جدداً للمعارضة وإن كانوا عملياً أدوات وأُجراء جدداً لحربها في المرحلة الثانية بنسخة منقحة من الأسماء التي عجزت جميعها عن إثبات حضور ولو شكلياً، وهو ما ينسحب أيضا على أدوار الدول الإقليمية والعربية ذاتها.
فالامتعاض الذي أبدته بعض الأسماء المرتبطة بالمشروع الأميركي وراهنت على الارتزاق تحت لافتته، يشابه عوامل القلق وهواجس الخوف التي تنتاب الدول والأطراف والقوى التي وضعت كل أوراقها في السلة الأميركية، التي تبحث اليوم عن مخارج تخفف من حرجها أو تحفظ لها ماء الوجه.
عند هذا المنعطف.. تمتلك الكثير من الأسئلة مشروعيتها، وهي تعكس قلقاً من رؤية الطاولة الأميركية المقلوبة في وجه «معارضة» الخارج بعد ان استنزفت آخر ما لديها من أوراق ووظفت كل طاقتها في العمالة والاسترزاق داخل المشروع الأميركي، فيما يواجه الداعمون الإقليميون لأولئك المرتزقة مأزقاً مزدوجاً، لا يكتفي بخسارة ما لديها من رصيد، بل يجرها إلى دائرة الاستنزاف الداخلي حين حملت بيديها عوامل تفجيرها.. هي والبيئة الحاضنة لها.
في الأسئلة الصعبة المطروحة .. لماذا تأخرت الإدارة الأميركية حتى اليوم لتتوصل إلى هذه الحقيقة رغم الأحاديث والتقارير المتعددة التي أصدرتها مراكز بحوثها وبيوتات صانعي القرار لديها؟
ليس من الصعب الإجابة، لكن كل الإجابات لن تقلل من مخاوف تلك الأدوات، كما ليس بمقدورها أن تدخل الطمأنينة إلى قلوب المرتزقة الجدد، خصوصا أمام المصاعب التي تواجهها في انتقاء من ترضى عنه، أو من يقبل ان يكون الضحية الجديدة للفشل الأميركي القادم، والشماعة التي تحمل تبعات العجز عن تنفيذ المشروع، خصوصا أننا على أبواب انتخابات قد تحمل متغيرات في الوجوه الأميركية.
وبغض النظر عن كل التأويلات والتفسيرات المتناقضة، فإن المؤكد اليوم، أننا امام مرحلة جديدة ونسخة معدلة تحتاج إلى كثير من الوقت حتى تتبلور حصيلتها أو يتحدد مصيرها، دون أن ننسى «التسونامي» الذي لن يكتفي باستبدال وجوه فحسب، بل قد يطول أنظمة وحكومات، طالما راهنت ورهنت مصيرها لحرب خاسرة، وحين تخسر الدول الكبرى حروبها، فإن التضحية تكون عادة بالأدوات والأجراء والمرتزقة، لكن، لأنها حرب كونية تقتضي أيضاً التضحية ببعض الحكومات وأحيانا ببعض الحكام وإن اقتضت الضرورة ببعض الدول.
لذلك، ليس أمام تلك الحكومات والمشيخات وأشباه الدول إلا انتظار لحظة تحين الحاجة لاستبدالها.. وهي في ضوء «الانقلاب» الأميركي ليست ببعيدة..!!
*عـــلي قــاســـــــم