النفط طاقة ومال. هو مادة استراتيجية للحركة والإنتاج، كما هو مصدر للمال الذي يصنع الكثير.
لـِ 'اسرائيل' في عقل الغرب مسوّغات سياسية واقتصادية وثقافية وعسكرية إستراتيجية. انها قاعدة متقدمة للغرب في قلب عالم العرب، لها وظيفة ودور. وظيفتها ان تكون انموذجاً ومثالاً ثقافياً للغرب في صراعه الحضاري مع سائر الامم. دورها ان تكون شرطياً بهراوة غليظة لتأديب من يعصى ويتحدى ويتصدى للغرب ونفوذه .
الإسلام روح العروبة بما هي هوية وانتماء وثقافة لإجتماع سياسي يشغل حيزّاً جغرافياً قارّياً ينطوي على مواقع ومضائق وخطوط مواصلات استراتيجية، وموارد طبيعية متنوعة وثرية، واسواق واسعة شاسعة مستهلكة ومنتجة وقدرات انسانية غنية وواعدة.
حاجة الغرب، ولا سيما اوروبا وامريكا، للنفط كانت طاغية في النصف الثاني من القرن الماضي. مع اكتشاف مصادر اضافية للطاقة الاحفورية والمتجددة، تراجعت حاجة الغرب للنفط والغاز العربيين. خبراء الطاقة يقولون إن لدى امريكا من الغاز الصخري ما يُعتقها من الإعتماد على نفط العرب. اكثر من ذلك، يتضح من الإحصائيات الموثوقة ان دول الشرق الاوسط صدّرت خلال العام الماضي ما نسبته 72 في المئة من نفطها الخام الى آسيا، ولاسيما الى الصين والهند واليابان وسنغفوره، وليس الى امريكا. مع ذلك تتمسك الولايات المتحدة بقواعدها وتعزز نفوذها في المنطقة. لماذا ؟
لثلاثة اسباب. اولها، لحماية ورعاية استثماراتها الواسعة في الاسواق الاقليمية. ثانيها، لتدوير عائدات النفط والغاز على نحوٍ يمكّنها من الحصول على بلايين/مليارات وافرة من الصناديق السيادية للدول النفطية. ثالثها، للسيطرة على مواقع استراتيجية مفتاحية في المنطقة تمكّنها من حماية 'امن اسرائيل'.
'اسرائيل' لم تنجح كأنموذج ومثال حضاري للغرب. عالم العرب والإسلام والمسيحية المشرقية رفضها بلا هوادة. لكنها افلحت في تبرير وجودها كقاعدة عسكرية متقدمة لامريكا في قلب المنطقة. وجودها ودورها الامنيان نجحا ايضاً في فرض سلامها على بعض العرب. نظام انور السادات في مصر استسلم لضغوطها ووقع معها معاهدة سلام. إخراج مصر من حمأة الصراع العربي-الصهيوني انعكس سلباً على الكفاح الفلسطيني المسلح، فتراجعت منظمة التحرير ووقعت إتفاقات اوسلو مع 'اسرائيل'. معها تحوّلت المقاومة، في معظمها، الى سلطة. في ظلّها سرّعت 'اسرائيل' سياسة الإستيطان في إطار مخطط للهيمنة على مجمل فلسطين التاريخية من النهر الى البحر.
خطر 'اسرائيل' الوجودي على الأمة تخطى مسألة زرعها وتجذّرها الى مسألة ما تسميه أمنها القومي وتفوقها العسكري النوعي على جوارها العربي والإسلامي. ذلك ان العقل العسكري الإسرائيلي إلتزم مفهوماً للأمن القومي لا يكتفي بالتفوق العسكري على دول الجوار القريب والبعيد فحسب بل يعمل للهيمنة عليه ايضاً. بحسب هذا المفهوم، لا يكفي ان تكون 'اسرائيل' الاقوى بين جيرانها بل يقتضي أيضاً إضعافهم وإبقاؤهم ضعفاء بالسيطرة الإستراتيجية عليهم. 'اسرائيل' حققت، جزئياً، غايتها هذه وتسعى الى استكمالها بجملة آليات ووسائل ابرزها الحرب الناعمة والفتن الطائفية، الحرب الخشــنة، الإيقاع بين امريكا والعرب، الإيقاع بين العرب انفسهم، الإحتلال العسكري المباشر، شبكات التجسس، معاهدات الصلح، إقامة أنظمة موالية لها او لامريكا، واخيراً وليس آخراً الحؤول، من خلال ما تقدّم ذكره، دون انطلاق تنمية عربية مستقلة للنهوض والإقتدار.
للتدليل على مدى إتساع مفاعيل التفوق والهيمنة، نشير الى نجاح 'اسرائيل' بسلاحيها الجوي والبحري واذرعتها الإستخبارية في تجاوز جوارها القريب الى الضرب في العمق البعيد: عملية تحرير اسراها في عينتيبي (اوغندا)، اغتيال ابو جهاد خليل الوزير(تونس)، اغتيال فتحي الشقاقي (مالطا)، تدمير مفاعل تموز النووي (العراق)، ملاحقة واغتيال العلماء النوويين العرب (فرنسا)، عمليات التخريب وإغتيال العلماء النوويين (ايران)، تدمير مصانع السلاح والذخيرة (السودان)، نشر غواصات بصواريخ ذات رؤؤس نووية في البحر الاحمر وبحر العرب وصولاً الى سواحل ايران الجنوبية الغربية.
الإسلام أبرز عوامل الترابط في عالم العرب. غير انه لم يكن دائماً في حال صحوة بل، غالباً، في حال خمول. الدليل؟ على مدى الف عام، حكم العرب حكامٌ اجانب بإسم الإسلام ظاهراً ولمصالحهم السياسية والإقتصادية والشخصية اولاً وآخراً. في شباط/فبراير من العام 1997، ثم مع مطالع العام 2011، تفجّرت غضبة شعبية عارمة في ايران اولاً ثم في تونس ومصر وسائر دنيا العرب تالياً، صعد الإسلام خلالها الى صدارة التحوّلات العالمية. الإسلام الصاعد ذو طابع محافظ، متعدد المذاهب والمشارب والتطلعات، لامركزي في قياداته وتنظيماته، معادٍ للغرب غالباً انما متعامل معه من خلال تنظيمات وحركات ناهدة الى السلطة.
الى ذلك، يبدو الإسلام الحركي فاعلاً في ساحات عدة في عالم العرب. انه لاعب رئيس في السلطة في تونس ومصر وليبيا وقبلها في السودان وفلسطين (غزة)، وهو لاعب فاعل في ازمات سوريا واليمن والاردن، وعماد المقاومة في لبنان (حزب الله) وفلسطين (حركتا 'حماس' و'الجهاد الإسلامي') والعراق.
بكل حجمه وفعاليته المتعاظمين يلعب الإسلام دوراً اقليمياً، خصوصاً من خلال جمهورية ايران الإسلامية ذات القدرات النووية. ولأن عالم العرب ينطوي على عاملين وازنين، النفط و'اسرائيل'، فقد اصبح له دور اقليمي وعالمي مؤثر في الإصطفاف الدولي المستجد والناهض بروسيا والصين وايران وقوى المقاومة العربية من جهة، والولايات المتحدة والاتحاد الاوروبي و'اسرائيل' من جهة اخرى.
يتمظهر الصراع في المنطقة اليوم في حرب ناعمة تعصف بأقطار عدة ابرزها سوريا، تواكبها تطورات ثلاثة :
اولها ازدياد فعالية 'الإسلام الجهادي'، او 'الارهابي' بلغة امريكا، ولاسيما بعد ثبوت مشاركة تنظيم 'القاعدة' وفروعه في ازمتي ليبيا وسوريا، وتصاعد نشاطه في اليمن وبعض مناطق العراق. واللافت، مؤخراً، نداء الشيخ ايمن الظواهري الذي دعا 'القاعديين' الى تكثيف نشاطهم في سوريا ضد نظام الأسد، والى إحياء 'الثورة التي جرى اجهاضها في مصر وفرض حكم الشريعة'. الولايات المتحدة تنبّهت لصعود 'القاعدة' وفروعه، فأحكمت استخباراتها، بالتعاون مع تركيا، رقابتها على توريد الاسلحة النوعية الى المعارضة السورية لمنع وصولها الى ايدي 'القاعديين'. في فرنسا، اظهر استطلاع للرأي نشرت نتائجه صحيفة 'الفيغارو' ان غالبية متزايدة من الفرنسيين تعتقد ان الإسلام يضطلع بدور اكثر من اللازم في مجتمعها وان نصفها تقريباً يرى في المسلمين تهديداً لهويته الوطنية. هذان التطوران من شأنهما تعزيز موقف الداعين في امريكا واوروبا وتركيا الى ايجاد مخرج سياسي من ازمة سوريا المستفحلة.
ثانيها، تعاظم نفوذ الإصطفاف الناهض بالتعددية القطبية المؤلف من دول 'البريكس' (روسيا والصين والهند والبرازيل وجنوب افريقيا) من جهة، وصعود ايران النووية من جهة اخرى، يهددان هيمنة امريكا على المنطقة وخصوصاً قدرتها على استحواذ حصة وازنة من فائض الصناديق السيادية العربية.
ثالثها، إنعكاس مفاعيل العاملين سالفي الذكر ايجاباً على قوى المقاومة العربية، وسلباً على 'اسرائيل' يهدد مصالح امريكا في المنطقة 'وامن اسرائيل'، كما يعزز محاولات اسرائيل لتوريط امريكا في حربٍ مع ايران.
الصراع محتدم ومتصاعد، وفي ساحاته يتقرر، عاجلاً او آجلاً، مصير ثالوث النفط و'اسرائيل' والإسلام الحركي.
*د. عصام نعمان