الفوضى الخلاّقة ... من سياسة الى حالة

 الفوضى الخلاّقة ... من سياسة الى حالة
الإثنين ٢٢ أكتوبر ٢٠١٢ - ٠٤:٢٢ بتوقيت غرينتش

تعمّ الفوضى، بمقادير متفاوتة، بلدان الشرق الاوسط. هي، في الأصل، الفوضى الخلاّقة التي كان نادى بها واعتمدها جورج بوش الابن سياسةً رسمية خلال رئاسته للولايات المتحدة. الخَلَف، باراك اوباما، لم يتبنَ، جهاراً، مصطلح السَلَف لأن الفوضى الخلاّقة، بما هي سياسة، كانت تحوّلت، عشيةَ انتخابه، الى حالة .

الفوضى التي تعمّ اليوم دول المنطقة هي خلاّقة فعلاً. ذلك انها 'خلقت' او استولدت مُذّ بوشر بتنفيذها اواخرَ العام 2001، حروباً ناعمة وخشنة، ونزاعات واضطرابات امنية، وانهيارَ أنظمةٍ سياسية عتيقة، وصعودَ حركاتٍ اسلامية 'عريقة'، وصراعات اهلية ادواتُها محلية ومحرّكاتها خارجية. ذلك كله انتج حالةً من السيولة السياسية والإجتماعية يصعب ضبطها وتأطيرها .
لنلقِ نظرةً فاحصة على المشهد الإقليمي، فماذا نرى؟
العراق في حال اضطراب سياسي وأمني متواصل ساعد في ترسيخ الحكم الذاتي في الشمال الكردي وتمايزه عن حكومة المركز في بغداد ما أفرز نظاماً كونفدرالياً للبلاد تتقاذفه كيانات قبلية ومذهبية متناحرة .
سوريا في حال حرب اهلية يشارك فيها مسلحون محليون وآخرون من جنسيات عربية واسلامية، ويستعصي حل ازمتها السياسية على جهود دولية واقليمية، كما على مبعوث اممي اول، كوفي عنان، وتكاد تستهلك الثاني، الاخضر الإبراهيمي . لبنان يغرق بوتيرة متسارعة في طائفية مزمنة ومرهقة، وانقسامات متناسلة واغتيالات سياسية، وقد فاضت عليه الازمة السورية بتداعياتها الأمنية والإجتماعية، فإزدادت الضائقة المعيشية اتساعاً والافق السياسي، عشية استحقاق الإنتخابات، انسداداً .
الاردن، يقبع على فوهة انفجار سياسي واجتماعي، يزداد خطورةً مع ابتعاد الإسلاميين وبعض زعماء القبائل عن الاسرة الهاشمية وإستقوائهم بصعود الاخوان المسلمين في مصر الى السلطة. كل ذلك في غمرة تدفق متزايد للسوريين الهاربين من حمأة الحرب الدائرة في بلادهم ما ادى الى استفحال الازمة الإقتصادية-الإجتماعية واتساع قاعدة المعارضة لنظامٍ بات هدفاً لتظاهرات متعاظمة . فلسطين، الرازحة تحت نير إحتلال صهيوني توسعي، تنؤ بإتساع رقعة الإستيطان وتعاظم عداء المستوطنين وهجماتهم المتصاعدة على الزرع والضرع من جهة، وتعمّق الشرخ بين سلطة رام الله وحكومة غزة 'المقالة' من جهة اخرى، وتكاد تتهاوى تحت اثقال الإحتلال الصهيوني، والشرذمة 'السياسية'، والازمة الإقتصادية - الإجتماعية، وإنسداد افق 'التسوية' السياسية، وغياب جهود جدية لترميم مشروع المقاومة وإعادة تفعيله .
مصر، التي لم تخرج بعد من تداعيات انهيار نظام مبارك، تعاني من آلام إنجاب نظام جديد لا يريد اطراف ثورة 25 يناير ان يحتكر 'ابوته' طرف دون آخر، ولا سيما في مرحلة 'العُدّة السياسية' اللازمة لوضع دستور جديد للبلاد. ومع اشتداد الصراع على مسألة الدستور، ومحاكمة رموز نظام مبارك، ومعالجة الازمة الإقتصادية-الإجتماعية، والموقف من المقاومة الفلسطينية في ضوء حرص حكومة الرئيس محمد مرسي على 'احترام' معاهدة السلام مع 'اسرائيل'، يُخشى ان يتطور الصراع الى انتفاضة جديدة يصعب ادراك آثارها وتداعياتها .
السودان ما زال يكابد آلام انفصال جنوبه وانعكاساته على الوضع في الشمال عشية انتهاء ولاية الرئيس البشير وقراره المرتقب بالتمديد او بالتنحي لمصلحة نائبه طه عثمان طه. المعارضة لنظام البشير الإسلامي إسلامية ايضا، لكن من طراز مغاير، وهي ستتأثر بالتأكيد بما سيؤول اليه الصراع في مصر بين الإسلاميين ومعارضيهم، فضلاً عما سينتهي اليه حال الإسلام السياسي في صراعات المنطقة .
اليمن ما زال يكابد آلام الخروج الشكلي من نظام علي عبدالله صالح وذلك في غمرة مواجهة ثلاثة تحديات : الحراك الإنفصالي في الجنوب، والحراك القبلي في الشمال المتداخل مع الصراعات السياسية والعسكرية المتصاعدة بعد إقصاء صالح، ونشاط 'القـاعدة' الذي تنفرد الولايات المتحدة بمكافحته .
البحرين النابضة بإنتفاضة طويلة النَفَس محلياً وفقيرة النُصرة عربياً واسلامياً، تترك اثراً في جوارها رغم محاولات دمغها بشبهة مذهبية .
في المغرب العربي الكبير، يخوض الإسلام 'الاخواني'، ولا سيما في ليبيا وتونس، معركة مزدوجة ضد منافسيه من الحركات الإسلامية، وضد القوى الليبرالية التي تناهض الماضوية والإرتداد عن الإصلاحات الديمقراطية الحامية لحقوق المرأة والحريات العامة، كما تناهض مخاطر اقامة انظمة اسلامية كلّية او سلطوية. ويصاحب هذه الصراعات إنقساماتٌ قبلية وجهوية تزداد معها حال التعددية السياسية والإجتماعية اتساعاً واضطراباً .
من مجمل ارتسامات المشهد الإقليمي يمكن الإستنتاج ان الفوضى حالة غالبة، وانها الى تفاقم وتأزم، وان تحوّلات ثلاثة بارزة تعتمل حالياً في بلدان المنطقة ومجتمعاتها وسوف تترك آثاراً عميقة في حاضرها ومستقبلها :
اولها، رسوخ التعددية الفئوية واطّراد تطورها الى حال من الشرذمة والسيولة والتسيّب. ذلك يؤدي، غالباً، الى تقليص قدرات الحكومات او السلطات المركزية ونفوذها والتعجيل في انهيارها، كما الى تزايد فعالية السلطات والقوى المحلية والقبلية وبالتالي شيوع حال من الإضطراب والتنازع والتناحر .
ثانيها، استمرار الولايات المتحدة في اعتماد استراتيجية 'الفوضى الخلاقة' نهجاً لترسيخ التعددية الفئوية والشرذمة والصراعات الاهلية في المجتمعات العربية والإسلامية وذلك للحؤول دون قيام متحدات قومية داخل الاقطار او عابرة لها ما يشكّل تهديداً لمصالح اميركا النفطية وأمن 'اسرائيل'. في هذا السياق، تحاول 'اسرائيل' ترجمة استراتيجية اميركا في جوارها بتقسيم سوريا الى دويلات طائفية واثنية، وتقسيم لبنان بالطريقة نفسها لإضعاف المقاومة وإقصائها، وتحويل الاردن وطناً بديلاً للفلسطينيين، والإستثمار في الإضطرابات الموسمية بين المسلمين والاقباط في مصر، ودعم اكراد العراق وايران وسوريا وتركيا لإقامة دولة موحدة وحليفة للغرب الاطلسي .
ثالثها، احتدام الصراع بين دول المنطقة الثلاث الرئيسة، ايران وتركيا و'اسرائيل'، من جهة وقيام كل من اميركا وروسيا والصين، من جهة اخرى، بدعم هذا الطرف الإقليمي او ذاك في سياق السياسات التي تعتمدها لحماية مصالحها وتعزيزها. مع العلم ان الولايات المتحدة ستثابر على اعتماد 'الفوضى الخلاّقة' والقوة الناعمة لتفكيك ايران، وحتى تركيا، وذلك في اطار استراتيجيتها الرامية الى حماية مصالحها وامن 'اسرائيل'.
ما السبيل الى تفادي انعكاسات الصراع المحتدم على الامة او تخفيف مفاعيله في الاقل؟
ثمة نهج ومطلبان :
النهج هو التركيز على ترميم الوحدة الوطنية وإعادة بنائها على قاعدة صلبة في كل بلاد العرب .
المطلب الاول هو التعجيل في اعادة بناء مصر، سياسياً وإقتصادياً وإجتماعياً وعسكرياً، لتعاود الإضطلاع بدور عربي واقليمي لمصلحة شعبها وامتها.
المطلب الثاني، المتوازي مع الاول، اقامة حركة عروبية ديمقراطية على مستوى الامة وفي الاقطار، تناضل من اجل تحقيق الاهداف الستة للمشروع النهضوي الحضاري العربي: الوحدة، الديمقراطية، الإستقلال الوطني والقومي، العدالة الإجتماعية، التنمية المستقلة، والتجدد الحضاري .
هل ثمة خيار أفضل؟.

*د. عصام نعمان -القدس العربي