وبالرغم من نظرية “نهاية التاريخ” التي تفترض أن العالم قد خرج، بعد زوال القطبية الثنائية، من طور الصراعات ودخل طوعاً في طور السلام النهائي في ظل الديموقراطية بمفهومها الأميركي، كان لا بد للمشروع الإمبراطوري من استثارة صراعات جديدة يمكنه من خلالها تسريع عملية السيطرة المطلقة على العالم. ومن هنا، استند المشروع إلى نظرية “صدام الحضارات”.
وبالرغم من الغموض الذي يحيط بهذه النظرية وبمفهوم الحضارة بوجه خاص، ظهر جلياً أن المقصود بالصدام هو في النهاية صدام تريده الولايات المتحدة بين العالم الذي طرحت نفسها قائدة له من جهة، والعالم الإسلامي من جهة ثانية.
ولا غرابة في اصطناع هذا الصراع الذي تخيل صناع السياسة الأميركية أنه محسوم سلفاً لمصلحة الولايات المتحدة بسبب حالة الضعف والاهتراء التي تعاني منها غالبية البلدان الإسلامية. ثم إن العالم الإسلامي، من إندونيسيا إلى أواسط آسيا وأوروبا وإفريقيا، يشكل بالفعل قلب العالم من الناحية الجغرافية، ولكن أيضاً من الناحية الاستراتيجية: ثروات طبيعية هائلة، ونمو ديموغرافي متسارع وخصوصاً دين كفيل ـ إذا ما تحرر من التلاعبات التي تحيط بتفسير نصوصه وأشكال تطبيقه ـ بقيادة البشرية المتعثرة إلى بر الحياة الصالحة لأن تفتح الإنسان على الفردوسين الأدنى والأعلى.
عالم إسلامي هو، بالنسبة للمشروع الإمبراطوري الأميركي، مثير للمطامع والمخاوف في آن معاً.حوقد كان من الممكن لمشروع الهيمنة أن يحقق أغراضه بطرق ناعمة في ظروف الفقر والجهل والتفكك الاجتماعي والسياسي الموروثة عن قرون طويلة من الاستبداد والظلامية الي تحرص على تأبيدها أنظمة حاكمة لا تزيد عن كونها ألاعيب في أيدي واشنطن وحلفائها. لكن الاستكبار والغطرسة وشهوة العنف والتلذذ بتدمير الآخر وإقامة الأمجاد عن طريق “المآثر” العسكرية، كل ذلك دفع القادة الأميركيين في اتجاه العمل على تحقيق المشروع الإمبراطوري بقوة السلاح.
ولم يكن من الصعب اختلاق مبررات الغزو: المؤامرة الأميركية التي تمثلت باختلاق هجمات 11 أيلول/ سبتمبر 2001 كرست إلصاق تهمة الإرهاب بالإسلام وسمحت للولايات المتحدة بأن تطرح نفسها للاضطلاع بمهمة تخليص العالم من هذه الآفة. لذا لم تنتظر غير عشرة أيام قبل أن تطلق الهجوم على أفقر بلد في العالم -أفغانستان- من قبل تحالف ضم 36 دولة بينها الدول الغربية العظمى.
وإمعاناً في الغطرسة، شاء البنتاغون إثبات قدرة الآلة الحربية الأميركية على تحقيق الانتصار في حربين يشنهما في وقت واحد. وهكذا، كان غزو العراق في آذار/ مارس 2003 بناءً على أكذوبة أسلحة الدمار الشامل. ولم يكن الدافع لغزو هذين البلدين غير المعروفين بخطرهما على المشروع الإمبراطوري، أو على الأمن القومي الأميركي، أو على السلم العالمي غير السعي لجعل كل منهما قاعدة ومنطلقاً لغزو البلدان الإسلامية المجاورة وإخضاعها: أفغانستان كمعبر نحو باكستان وإيران وبلدان آسيا الوسطى، وفي الوقت نفسه كهراوة للضغط على سياسات الصين وروسيا والهند.
والعراق كمعبر نحو إيران وسوريا ولبنان وفلسطين، من دون إهمال الابتزاز والتضييق، رغم الصداقات والتحالفات، على كل من تركيا لما يشكله من مخاطر كامنة موقعها على رأس عالم تركي يمتد لآلاف الكيلومترات من سيراجيفو إلى آلما آتا، وبلدان الخليج "الفارسي" وثرواتها النفطية التي لا يخفي الغرب توجهه إلى التعامل معها على أساس أنها ثروة عالمية.
والواضح أن إيران مستهدفة مباشرة من غزو أفغانستان، خاصرتها الشرقية، ومن غزو العراق، خاصرتها الغربية، وذلك في إطار استهدافها الدائم والفاشل منذ تفجر ثورتها الإسلامية في العام 1979. لأسباب في طليعتها سعيها الدؤوب من أجل وحدة العالم الإسلامي والدفاع عن قضاياه العادلة وفي طليعتها القضية الفلسطينية. وخصوصاً، لأن إيران هي البلد الإسلامي الوحيد الذي يقدم نموذجاً حياً وناجحاً في البناء السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي، ولأن هذا النموذج قد بدأ يشد إليه أنظار جميع الشعوب المغلوبة على أمرها والتواقة إلى التحرر داخل العالم الإسلامي وخارجه.
أما سوريا وحركات المقاومة فهي مستهدفة بالقدر نفسه لأنها عطلت عملية الاستسلام العربي لتوجه بذلك ضربة قاسية إلى المشروع الإمبراطوري على المستويين الإقليمي والدولي.
وعلى ضوء هذه المعطيات، يكون الرهان على “صدام الحضارات” قد خسر، مع الحروب على أفغانستان والعراق ولبنان وغزة، جميع الجولات التي خاضها، والأكيد أن جولته في سوريا لن تقف عند حدود الخسارة العادية، ولن تطوي الصفحة الأخيرة من المشروع الإمبراطوري وحسب، بل ستشكل بداية أكيدة للانهيار الذي بدأ يدك بنيان العالم الإمبريالي.
*عقيل الشيخ حسين