وقبل البحث في التساؤل هذا، نذكر بان فرنسا لعبت منذ بداية الازمة السورية دورا اساسيا في التدخل فيها، وشكلت جزءا رئيسا من الجبهة الحاضنة لما اسمي «معارضة سورية»، وما تمت ترجمته في الميدان ارهابا لقتل السوريين وتهجيرهم. وقد ساهمت بشكــل اساسي مع دول اربع اخرى (أميركا وتركيا والسعودية وقطر) في تشجيع الاعمال الارهابية ومنع اي حل سياسي للازمة يؤدي اليه حوار وطني يشارك فيه السوريون بجميع مكوناتهم، وظهرت دائما في مظهر المستعجل للتخلص من النظام السوري وإحلال حكم عميل للغرب مكانه يكون لها فيه موقع مميز.
ومن البديهي ان نقول إن فرنسا لا تعمل منفردة في الشأن السوري، بل ان كل ما تقوم به متصلا بهذه القضية لا يعتمد من قبلها الا بالتنسيق والتناغم التام مع جبهة العدوان على سورية بقيادة أميركية، وعلى هذا الاساس كان تعيين موعد انعقاد جلسة لمجلس الأمن تمليه حاجات وغايات رمت تلك الجبهة الى تحقيقها وتتصل بامرين اساسيين :
الأمر الاول: رغبة غربية في تحضير البيئة الدولية لاتخاذ موقف في مجلس الأمن يناسب التطلعات والاهداف الغربية الاساسية في سورية والمنطقة، بحيث يعالج هذا الموقف العقبات التي اعترضتها والتي ترجمت باستعمال حق النقض من قبل روسيا والصين واجهضت كل خطة التدخل الاحتيالي الغربي في سورية. ومن اجل انتاج تلك البيئة عمدت الجبهة المعادية وفروعها الاساسية بدءا بتركيا الى التهويل والترويج او استعادة الحديث عن المناطق العازلة او المناطق الآمنة للإرهاب. كما طرحت الاسراع في تشكيل الحكومة الانتقالية الممكن الاعتراف بها غربياً. وطبعاً، لجأت المجموعات الإرهابية الى القتل والمجازر التي نفذتها بشكل وحشي في اكثر من منطقة سورية أخيراً خصوصاً في داريا وجرمانا في ريف دمشق. لكن هذا المسعى بات عند العقلاء عديم الجدوى ولن يؤدي الى اي نتيحة ولن يحدث اي تغيير في المشهد حيث اننا نسجل:
1) في مجال المناطق الآمنة للارهاب او الممرات او المناطق العازلة فانه من البديهي التذكير بان الموقف الروسي –الصيني قاطع في رفضها عبر مجلس الأمن، ومتمسك بمبادرة الامم المتحدة المثبتة في اعلان جنيف والذي لا يرى ـ الإعلان ـ حلاً للازمة السورية الا بالحوار ومن غير اي مس بالواقع السيادي لسورية. اما انشاء المناطق خارج مجلس الأمن، فانه يعني الحرب على سورية من قبل جبهة العدوان وعمودها الفقري حلف الناتو، ونحن نعلم واقع هذا الحلف وخشيته من اي حرب جديدة، وعدم توفر قدرات عسكرية كافية لمواجهة الاخطار التي تسببها الحرب خصوصاً مع علمه بالقرار الإيراني الحازم حيالها. لذلك اننا نفهم جيدا استخفاف سورية وحلفائها بالتهديد بالمناطق العازلة ووصف الرئيس الاسد لها بانها غير واقعية.
2) اما على صعيد الحكومة الانتقالية التي تستعجل فرنسا تشكيلها فانه امر مثير للسخرية ايضاً إذ إن المعارضات السورية التي لم تتفق حتى على مجلس يجمعها وهي من غير سلطة، كيف لها ان تنشئ سلطة لا ارضية لها ولا شعب ولا قدرات الا ارهاب يتحرك باوامر دولية، وبالتالي فان مطلب الحكومة الانتقالية هو الآخر غير واقعي ولن يتحقق بما يغير المشهد او يؤثر فيه.
3) يبقى استثمار المجازر: وهنا لا بد من التذكير بان هذه الورقة احترقت وعفا عليها الزمن ولن تغير في مواقف القوى الدولية بعد ان انقسم العالم الى معسكرين لا يثق احدهما بمواقف الآخر، وبعد ان كشف التزوير والخداع في تلفيقات المجازر السابقة التي كانت ترتكب في كل مرة قبل انعقاد جلسة لمجلس الأمن للبحث بالامر السوري.
الأمر الثاني: سعي غربي للتشويش على إيران ومؤتمر القمة لحركة عدم الانحياز الذي يعقد في طهران بتاريخ 30 آب (اي اليوم ذاته الذي حددته فرنسا لانعقاد مجلس الأمن)، بعد ان بات واضحاً لدى الغرب بان نجاح إيران في عقد هذا المؤتمر سيشكل صفعة له خصوصاً لأميركا التي تسعى إلى فرض عزلة سياسية على إيران مترافقة مع حصار اقتصادي وتهويل عسكري من باب الملف النووي الإيراني السلمي. وبعد ان غيب الغرب المؤتمر كلياً عن إعلامه، حتى وكأنه لم يعقد أصلاً، أو أن حركة عدم الانحياز غير موجودة، فقد جهدت أميركا والغرب لافشال المؤتمر بالضغط على أكثر من دولة لمقاطعته، او خفض مستوى التمثيل فيه، او إحداث اشتباك وفوضى حول قراراته وتوصياته. لكن كل آمال الغرب ذهبت أدراج الرياح وجاءت النتائج عكس ما أراد حيث نجحت إيران والحركة في عقد المؤتمر ما أدى الى إحداث ما يلي :
1) إعادة التوازن الى العلاقات في المشهد الدولي بعد نفض الغبار عن حركة عدم الانحياز التي أدخلت منذ عقدين تقريباً في ديجور التغييب اثر وفاة قادتها التاريخيين الثلاثة (عبد الناصر وتيتو ونهرو) وانحلال الاتحاد السوفياتي. وإعادة التوازن هذه جاءت محطة أخرى في طريق كسر الأحادية القطبية وإقامة النظام العالمي المتعدد القوى، فبعد أن كان الفيتو الروسي – الصيني قد عطل استعمال أميركا لمجلس الأمن كاداة لتنفيذ سياستها العدوانية، ما جعلها تذهب الى الجمعية العامة للأمم المتحدة من أجل التغطية على هذا المستجد، والقول بأنها ما زالت تتحكم «بالمجتمع الدولي»، فان حشد 120 دولة في طهران والتفافها حول قرارات عادلة عاقلة موضوعية لمصلحة الشعوب بعيداً عن إملاءات أميركا من شأنهما ان يعيدا التوازن المطلوب، ويمكن من القول بان هناك ولادة ثانية لحركة عدم الانحياز على اليد الإيرانية، ولادة أكدت قيام النظام العالمي الجديد
2) تسفيه المنطق الغربي والإعلامي المعادي لإيران واظهار حقيقة الموقع الإيراني في المجموعة الدولية، حيث أن إيران التي تستضيف في هذا المؤتمر ثلثي دول العالم، تقول بهذه الاستضافة، إنها في قلب العالم ولن تغير في هذه الحقيقة الافتراءات والمزاعم الغربية المغايرة.
3) منح دول العالم المنضوية في حركة عدم الانحياز الفرصة للاطلاع على حقيقة الواقع الإيراني ومنجزات الثورة الإسلامية، ونتائج العمل السياسي بالقرار المستقل الذي يؤدي الى استثمار وطني للثروة وتفعيل للقدرات التي تحميها بعيداً من الهيمنة والاستتباع، وهي أمور تفاخر بها طهران وتشكل نموذجاً يحتذى.
4) فتح المجال أمام الساعين بإخلاص إلى حل الأزمة السورية لسلوك مسلك منطقي وواقعي لبلوغ نهاية سعيدة لهذه الازمة تحترم إرادة الشعب السوري وقراره المستقل في اختيار حكامه بعيداً من التدخل الغربي والعمل العسكري العدواني. وهنا يسجل ان مجرد اعتماد مثل هذا الموقف من قبل قمة عدم الانحياز يؤدي الى إجهاض ما حاولت أميركا وأتباعها من تصويره نجاحاً لها في الجمعية العمومية للأمم المتحدة ضد سورية وشعبها.
5) التصدي لمسألة الهيمنة الأميركية والاستعمار الغربي وطرح مسائل دولية هامة تتعلق بمجلس الأمن وهيكلته. ورغم أننا نعلم أن هذا الامر لن يجد طريقه الى التنفيذ السريع الآن، فإن أهميته تبقى في ظهور ثلثي دول العالم بمظهر الساعي اليه، وهذا ما يجعل الغرب وأميركا بشكل خاص أمام تحدي الإرادة الدولية الساعية إلى العدالة والاستقرار.
وفي تقييم عام، نستطيع أن نقول إن مؤتمر القمة لحركة عدم الانحياز في طهران مَثَّلَ حلقة من سلسلة انتصارات إيران ومحورها وحلفائها، أضيفت الى حلقات سبق وشكلت صفعة للغرب تراكم إخفاقاته في المنطقة والعالم، وتؤكد القدرة على إقامة نظام عالمي متوازن، وشرق أوسط لأهله.
*العميد امين حطيط