ذلك أن واشنطن لم تسترح إلى مشاركة الرئيس محمد مرسى في قمة عدم الانحياز التي ستعقد في طهران. ولا أعرف ماذا قالت الرسائل الدبلوماسية التي تمت بين البلدين بهذا الخصوص، ولكننا فهمنا مضمونها من خلال التصريح الذي أدلت به المتحدثة باسم وزارة الخارجية فيكتوريا نولاند، وقالت فيها إن واشنطن ضد التمثيل الدبلوماسي رفيع المستوى لمصر في القمة. وهو كلام رغم نعومته يعبر عن درجة من الجرأة والصفاقة تستغرب في سياق أي علاقات عادية بين بلدين. وما كان للمتحدثة الأمريكية أن تنطق به لتحدد مستوى تمثيل مصر في مؤتمر لا علاقة للولايات المتحدة به إلا في ظل افتراض حالة من الوصاية والعلاقة غير العادية بين البلدين. وهو أمر كان معلوما في ظل النظام السابق الذي اختار الانضمام إلى بيت الطاعة الأمريكي، لكن من قصر النظر أن يتصور أحد ــ في واشنطن أو غيرها ــ أن ذلك الوضع يمكن أن يستمر بعد سقوط النظام وقيام الثورة. ولذلك كان طبيعيا أن ترد رئاسة الجمهورية المصرية على العتاب الأمريكي المبطن بما أعلنه المتحدث باسم الرئاسة، الدكتور ياسر علي، من أن لكل دولة الحق في أن تتخذ ما تشاء من قرارات بشأن المشاركة في القمة.
القلق الإسرائيلي عبرت عنه صحيفة معاريف في عدد الثلاثاء 21 /8، حين ذكرت أن رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو وجه رسالة شديدة اللهجة إلى مصر مطالبا إياها بإخراج دباباتها من سيناء، كما أنه طالب القاهرة ــ من خلال البيت الأبيض ــ بالتوقف عن إدخال قوات من جيشها إلى سيناء، دون تنسيق مسبق مع إسرائيل. واحتج في ذلك بأن الإجراءات المصرية تمثل انتهاكا خطيرا لاتفاقية السلام.
أضافت الصحيفة في تقريرها أن مصر حين دفعت بدباباتها وقواتها إلى سيناء بعد جريمة قتل 16 ضابطا وجنديا في رفح، بدعوى مكافحة الإرهاب وبسط السيطرة الأمنية عليها، فإنها قد تتطلع إلى أبعد من ملاحقة الخلايا الإرهابية. وأنها قد تستغل ذلك الظرف لكي تبقى قواتها المدرعة في سيناء بصفة دائمة، وبالتالي تغير من اتفاقية السلام على أرض الواقع.
هذا الكلام بدوره يعبر عما هو أكثر من الصفاقة، لأن إسرائيل احترفت انتهاك اتفاقية السلام في سيناء طوال عهد مبارك، وقتلت في غاراتها وتغولاتها عشرات المصريين، أحدثهم ستة جنود قتلتهم داخل الحدود المصرية في العام الماضي. وما فعلته مصر كان استجابة لمتغير شهدته سيناء التي هي بالأساس جزء من الأراضي المصرية، علما بأن القاهرة أخطرت إسرائيل بتحركها طبقا لما تعهدت به في اتفاقية السلام، التي أثبتت الظروف أن ملحقها الأمني بحاجة إلى تعديل لمواجهة متغيرات الواقع بعد مضى أكثر من ثلاثين عاما على إبرامها.
كنت قد أشرت من قبل إلى أن الولايات المتحدة وإسرائيل على استعداد للقبول بأي متغيرات في مصر، مادامت في حدود الشأن الداخلي، لأن ما يهمها هو أن تظل السياسة الخارجية ملتزمة بإطار الانبطاح الذي استقر طوال عهد مبارك، الأمر الذي رشح الرئيس السابق لكي يصنف بحسبانه «كنزا استراتيجيا» لإسرائيل. وذكرت بعد ذلك ــ حين تم تسفير الأمريكيين المتهمين في قضية التمويل الخارجي رغم عرض قضيتهم على القضاء ــ أن مصر لن تستطيع أن تقول لا للهيمنة الأمريكية والعربدة الإسرائيلية، إلا بعد أن تستقر أوضاعها الداخلية، وتصبح على قدر من العافية يمكنها من أن تتحمل عواقب الدفاع عن استقلال قرارها الوطني.
لم أغير شيئا من ذلك الرأي. ولا أريد أن أبالغ في تحميل مواقف القاهرة الأخيرة بأكثر مما تحتمل، وادعى أن ملف السياسة الخارجية قد فتح، ليس فقط لأن الأوضاع الداخلية لم تستقر تماما بعد، ولكن لأن علاقات مصر مع هذين البلدين حافلة بالتعقيدات والتعهدات التي نعرف أولها ولا نعرف شيئا عن عمقها ناهيك عن آخرها.
هذه الخلفية تسوغ لي أن أنبه إلى أمرين في الموقف الذي نحن بصدده. الأول أن عتاب واشنطن واحتجاج تل أبيب لا يمثلان مواجهة مع البلدين، ولا يعبران عن تغير العلاقة معهما، ولكنهما من قبيل الرسائل التمهيدية التي تفتح الباب لتوقع ذلك الاحتمال في المستقبل، إذا ما أصرت مصر الثورة على أن تدافع عن استقلال قرارها وعن السيادة على أراضيها. الأمر الثاني أن القاهرة لم تسع إلى فتح ملفات العلاقة مع البلدين، ولكنها تعاملت مع وضع فرضته الظروف عليها. سواء فيما خص المشاركة في قمة طهران أو فيما تعلق بدفع القوات والمدرعات إلى سيناء بعد الذي حدث في رفح.
وإذا كنت أدعو إلى عدم المبالغة في تصوير سلوك القاهرة، فإنني أيضا أرجو ألا نبخس ذلك الموقف حقه، ذلك أنه إذا لم يعبر عن تغيير في السياسات يلتزم بالدفاع عن الكرامة الوطنية، إلا أنه يظل محملا بتلك الرائحة. وتلك لعمرى رائحة زكية أرجو ألا نكتفي باستنشاقها في الهواء، وألا ننتظر طويلا حتى نراها واقعا ملموسا على الأرض. قولوا: إن شاء الله.
*فهمي هويدي