يومها قليلون هم من عقدوا العزم للالتزام بفتواه تلك والقيام بواجبهم تجاه فلسطين، اما غالبية القوم ممن كانوا بالفعل من محبيه ومقلديه فضلا عن مناكفيه ومخالفيه فقد اعتبروه خارجا على الاعراف والتقاليد في الحد الادنى ان لم يذهب بعضهم ابعد من ذلك!
من جملة القليلين الذين التزموا بتلك الفتوى، بل ووجدوا ذاتهم فيها وشعروا ان هويتهم الدينية والسياسية يتم اعادة صياغتها بقالب جديد كانوا الشهداء محمد صالح الحسيني ومحمد منتظري و... آخرين احياء لا اريد التطرق لاسمائهم لان منهم من انقلب على عقبيه ومنهم من اذا ذكرته قد يدخلنا الجدل حوله في متاهات نحن في غنى عنها!
ولان المهم هو فتوى الامام الخميني غداة استمرارية فضاء يوم القدس العالمي دعونا نتحدث صراحة بعض الشيء لنعتبر من تلك الفتوى.
ماذا كانت تعني تلك الفتوى 'الانقلاب' في ذلك الزمان:
اولا: ان مرجعا شيعيا مسلما وايرانيا يرى بان الحد الادنى من اولويات الواجب الديني لاي مسلم ملتزم ان يقاتل من اجل القدس وفلسطين ويساهم في تحريرها مهما كانت لديه من مهام 'قطرية' وطنية او قومية او عقائدية!
ثانيا: ان انعدام القيادة 'الصالحة ' من وجهة نظر الملتزمين لا يعفي احدا ابدا من القيام بهذا الواجب الديني تجاه قضية مثل قضية فلسطين!
ثالثا: ان قضية فلسطين هي قضية مركزية للعرب والمسلمين ولا يجوز تبرير الانتظار حتى تتوافر الشروط الشرعية او العقدية او سمها ما شئت حتى يقوم المسلم بواجبه وتكليفه الشرعي تجاهها!
رابعا: ان الالتزام الديني لاي مسلم انما يختبر ميدانيا وفي كل ساعة بمدى التزامه بقضايا الامة المركزية وتحديدا في عالم السياسة والجهاد والنضال وليس في عالم التجريد والتنظير و'انتظار الفرج السلبي' كما كان يروج الكثيرون ولا يزالون سنة وشيعة ومن كل الطوائف والشرائع والاطياف تهربا من تحمل المسؤولية او القاء اللوم على الظروف الموضوعية المحيطة!
خامسا : ان كونك مسلما او متدينا لديك قراءتك الخاصة في الفقه والعقائد والاصول لا يبرر لك مطلقا ان تترك اخاك المسلم الآخر لاي فئة او مذهب او مدرسة فقهية انتمى يواجه مصيره لوحده بحجة القراءة الفقهية او المذهبية او الطائفية المتفاوتة، لاسيما عندما يكون الموضوع من نوع فلسطين!
سادسا: ان الدين والسياسة صنوان لا ينفصلان، اصلا لا يوجد شيء اسمه دين من دون سياسة او العكس لدى المتدين الحقيقي والواقعي، بمعنى ان الدين يساوي منظومة الحياة والموت والنظرة الكونية الشاملة للامور والسياسة جزء منها، وهذا يختلف عن ان مدعين للدين يوظفون السياسة في خدمة اسقاطاتهم الدينية الخاصة بهم او ان لاعبي سياسة دجالين وما اكثرهم لاسيما بين الحكام يوظفون الدين كاداة في خدمة استبدادهم وادامة نهبهم لثروات الامة باسم الدين احيانا وبمساعدة ثلة من فقهاء السلاطين!
سابعا: ان مرجعية كمرجعية الامام الخميني كانت ثاقبة النظر وبعيدة الافق في نظرتها لامور الشأن العام بحيث انها قفزت فوق فروقات الفرق المذهبية الجزئية والتفصيلية وغير الجوهرية كشيعة وسنة مثلا او عرب وعجم واعتمدت مرجعية القرآن في نظرتها لانبل واشرف واطهر قضية عرفتها امة الاسلامية منذ مائة عام على الاقل.
يومها لم يكن لدى الامام الخميني العظيم لا مصالح شخصية ولا حزبية ولا فئوية ولا مذهبية ولا قومية ولا حتى ذاتية تتعلق بالزعامة مثلا حتى تضطره لاتخاذ مثل ذلك الموقف!
والقضية الفلسطينية يومها لم تكن قضية 'تربيح ' بالمعاني المادية بل كلها خسارة على المستويات الآنفة الذكر اذا ما اخذناها في ميزان المعادلات الدنيوية!
ربما حتى بعض اقرب الناس اليه من حيث العلاقة الشخصية او التشابه في الشكل الوظيفي الديني العام لم يكونوا ليتفهموا ذلك الموقف ان لم يكونوا قد وقفوا ضده!
والدليل والشاهد على ما نقول هو تلك الحرب السرية والعلنية التي خيضت ضد اي كادر من كوادره او مقلد من مقلديه اراد تفعيل تلك الفتوى يومها ومن اقرب الناس اليهم والى الدين! ايضا يومها لم يكن للامام دولة ولا مصالح حكومية ولا نووي ولا استراتيجيات دول ولا تكتيكات حكومات قد دخلت بعد في حساباته، وقيادة النضال ايضا لم تكن بيد الاسلاميين!
من هذا المدخل ينبغي ان نفهم ما قاله سيد المقاومة وصاحب مدرسة الوفاء الاندر في تاريخ المناضلين قبل ايام عندما وصف موقف الثوار الايرانيين المسلمين والذين بات لديهم اليوم حكم وحكومة ودولة واستراتيجيات وتكتيكات بانهم انما ينظرون الى المنطقة كلها بل والى خريطة العالم 'بعيون فلسطينية'!
هو شخصيا وليسمح لي تأدبا انه وان لم يكن يومها شاهدا على ذلك العصر العسير الذي مر علينا لكنه يقرأ ببصيرة العارف والمتيقن الذي التقط الجوهر من مدرسة الامام المؤسس ومن ثم صار المعلم الاول الذي ساهم في صنع الانتصارات الاهم في تاريخ الامة منذ ان تمسك بهذه المدرسة الاصيلة صار يعرف معدن الرجال وكيف يميز بين الذهب الصافي والذهب 'الجلب' كما يقول اخوتنا العراقيون!
*محمد صادق الحسيني