مصر والتشيع..

 مصر والتشيع..
الأربعاء ٣٠ مايو ٢٠١٢ - ٠٥:١٩ بتوقيت غرينتش

العلاقة بين الموقف والتجربة العملية، هي علاقة شفيفة، غير قابلة للتأويل، فهي اما ان تعبر عن الوضوح والمصداقية، او خلاف ذلك، ربما تعكس الغموض والضبابية والنفاق، خاصة اذا كانت المسألة ذات صلة بالعقيدة والقيم الاسلامية.

وبغية الانصاف والموضوعية، يتعين على الذين لم يقرأوا مدرسة اتباع آل البيت النبوي الشريف، و بالتحديد (التشيع )، الا يقعوا في فخ التقولات والمزاعم والافتراءات المنبعثة من بؤر التفرقة والفتن، باعتبارها اسهل الطرق للايقاع بين ابناء الدين الاسلامي واهل القبلة على اختلاف مذاهبهم.

فآيات القرآن الكريم والاحاديث النبوية الشريفة تحض المؤمنين عبر الازمنة، على الالتفاف حول محور كلمة التوحيد وتوحيد الكلمة، مثلما تشدد على رصّ الصفوف وتقوية اللحمة الاسلامية، الى جانب التأكيد على كلمة السواء بين اتباع الاديان السماوية، انطلاقا من قاعدة العبودية الخالصة لله الواحد الاحد،وبعيدا عن اشكال الشرك والسلوكيات المتطرفة التي انتشرت خلال العشرية الاخيرة تحت لواء تكفير  المسلمين الشيعة و السنة واستباحة دمائهم وارواحهم واموالهم، استنادا الى فتاوى واحكام ما انزل الله بها من سلطان، انطلقت من شبه الجزيرة العربية ومولتها العائلة السعودية المتسلطة على بلاد الحرمين الشريفين، تساندها القبائل الحاكمة المتحالفة معها في اعتناق "العقيدة الوهابية" المعروفة عبر التاريخ بمواقفها وممارساتها المحرضة على الطائفية والتعصب.

وكانت الدوائر الغربية والاستعمارية، استغلت منذ بداية القرن العشرين المنصرم و اواسطه، بعض الخلافات المذهبية الجزئية بين المسلمين، وعلى قاعدة (فرق تسد)، اقدمت هذه الدوائر على تضخيمها وتلغيهما، بهدف اشاعة العداوة والبغضاء والتخاصم، بين ابناء الامة. لكن مع ظهور علماء كبار ومفكرين مصلحين من امثال السيد جمال الدين الاسد آبادي المعروف ب(الافغاني) والشيخ محمد عبده، والشيخ محمد حسين كاشف الغطاء، والشيخ عبدالمجيد سليم، والشيخ محمود شلتوت، والشيخ محمد تقي القمي والاستاذ حسن البنا، وآية الله البروجردي (رحمهم الله اجمعين)، والكثير من غيرهم من حملة لواء تعزيز الاخوة الاسلامية، توطدت ثقافة الوحدة الاسلامية والتقريب بين المذاهب.

وكان للازهر الشريف قصب السبق في انشاء دار التقريب في القاهرة في اواخر اربعينيات القرن الماضي، حيث بارك علماء مصر هذا الجهد الوحدوي، ولم يدخروا وسعا لدعم منطلقاته الخيرة.

وفي ضوء هذه الاجواء الطيبة، استظل المسلمون المصريون من السنة والشيعة بظلال التآلف والمودة، علما ان اتباع مذهب اهل البيت (عليهم السلام)، هم جزء لا يتجزأ من تركيبة الشعب المصري المؤمن منذ القدم، ولعل تأسيس مدينة القاهرة في عهد الخلافة الفاطمية بأرض الكنانة، هو دليل ساطع على عمق جذور حب اهل البيت عليهم السلام في هذه البلاد.

وازاء ذلك، يخطئ من يتصور او يحاول تصوير أن الشيعة في مصر، هم ظاهرة مستحدثة، وان الاصرار على مثل هذه الاقاويل، هو وليد تفشي الوهابية المنحرفة التي ناصبت ــ وما تزال ــ العداء لاتباع آل البيت النبوي الشريف في بلاد الحرمين الشريفين والعراق وايران ولبنان وسورية واليمن والدول العربية الخليجية، واخيرا وليس آخرا في مصر.

فقد شهدت قبل احداث ثورة (25 يناير 2011) وبعدها، ممارسات ومواقف، حاولت التأليب على الشيعة ومراقد اهل البيت (عليهم السلام) في هذا البلد، الامر الذي اثار غضبا واستياءا واسعين وتصدى علماء الازهر الشريف بكل حزم له، وهددوا بانزال العقاب الشرعي بكل من تسول له نفسه المساس بهذه المزارات الشريفة التي تحظى باحترام جميع امة المصطفى محمد (صلى الله عليه وآله وسلم).

على صعيد متصل لايجهل احد في العالم، التزام ايران بلواء الوحدة الاسلامية وجهودها لتقوية عراها واواصرها، منذ انتصار الثورة الاسلامية المباركة في 11 شباط 1979 وحتى يومنا هذا. فقد افتى مفجر الثورة الاسلامية الامام الخميني رحمه الله بوجوب ائتمام الحجاج الشيعة ايرانيين وغير ايرانيين، بصلوات الجماعة والجمعة في المدينة المنورة ومكة المكرمة ايام الحج والعمرة، وفي صلاة العيد، تاكيدا منه على توحيد الكلمة ووحدة الصف، رغم البون الواضح بين فقه السنة والشيعة، ورغم ذهنية تفكير زعماء المذهب الوهابي الذين لا يتورعون عن تكفير كل من لا يأخذ من افكارهم وفتاواهم.

كما ان الجمهورية الاسلامية اعلنت الفترة من 12 ربيع الاول الى 17 ربيع الاول من كل عام اسبوعا للوحدة الاسلامية، يشترك فيه اهل القبلة في تخليد ذكرى المولد النبوي الشريف، ويجتمع خلاله علماء الامة في طهران بمؤتمرات وندوات فكرية وفقهية، ابتغاء التأكيد على القواسم المشتركة في العقيدة والشريعة، وهي اكثر بكثير من نقاط الاختلاف، والتي اتفق اتباع المذاهب الاسلامية على ان يعذر بعضهم بعضا حولها، مع مراقبة وضبط تلك السلوكيات الاستفزازية والتحريضية التي يمكن ان تعكر صفو علاقات الاخوة الاسلامية في ارجاء البسيطة.

وفي عهد قيادة آية الله خامنئي للجمهورية الاسلامية، اوعز سماحته بتأسيس المجمع العالمي للتقريب بين المذاهب الاسلامية عام 1991، وهي المؤسسة التي لعبت خلال العقدين الماضيين دورا مؤثرا في مضمار تنقية الاجواء السلبية، والتصدي للتصرفات المنحرفة، وتقديم الفكر الاسلامي الوحدوي الاصيل الهادف الى مكافحة المظاهر المنافية لاصل الاخوة و التكاتف والانسجام بين بني امة محمد(صلى الله عليه وآله وسلم).

وعندما حاول بعض المحسوبين على الشيعة الاساءة الى حرم الرسول الاكرم وصحابته، اصدر الامام الخامنئي فتوى تاريخية في معرض الاجابة على اسئلة المسلمين الشيعة بشأن تلك الاساءة، وكان نص الفتوى:

  "يحرم النيل من رموز اخواننا اهل السنة، فضلا عن اتهام زوجة النبي  صلى الله عليه وآله بما يخلّ بشرفها، بل هذا الامر ممتنع على نساء الانبياء وخصوصا سيّدهم الرسول الاعظم صلى الله عليه وآله وسلم".

وعندما نستعرض موقف زعامة المرجعية في النجف الاشرف  نقرأ كيف تصدى  الراحل آية الله السيد محسن الحكيم رحمه الله لقضايا مهمة في الساحة العربية لم يكن لها صلة بالنجف او بالحوزة العلمية او بالمسلمين من الطائفة الشيعية، وكانت امور تخص العالم العربي والاسلامي.

لقد كان السيد الحكيم يتصدى لهذه الامور ويبدي الرأي فيها ويعمل على معالجتها ، وحينما حصلت المشكلة مع الكرد في العراق كان الامام الحكيم اول من تصدى وافتى بحرمة قتال الاكراد وهذه المواقف التأريخية مشهودة والى اليوم يشهد بها اخواننا الكرد للمرجعية ، وعندما تحصل المشكلة لعلماء من المسلمين السنة في مصر وفي اماكن اخرى يقف الامام الحكيم ويرسل كتاباً الى رئيس الجمهورية المصرية انذاك ويطالبه فيها بعدم تنفيذ حكم الاعدام بحق السيد قطب او غيره من العلماء والمجاهدين الذين حكم عليهم بالإعدام ، وعندما تحصل قضية فلسطين كان سماحته  اول من ينبري ويسوغ ويسمح لدفع الزكاة للقضية الفلسطينية وفي الدفاع عن الشعب الفلسطيني ،واصدر بهذا الخصوص العديد من البيانات التي تشجب العدوان الصهيوني, وتؤكد عـلـى ضـرورة الـوحدة الاسلامية, لغرض تحقيق الهدف الاسمى, وهو تحرير القدس الشريف و المسجد الاقصى من ايدي الصهانية المعتدين .

أما المرجع الراحل آية الله ابو القاسم الخوئي رحمة الله عليه فقدكان موقفه من محنة المسلمين في  الغزو السوفييتي الاحمر  لأفغانستان واضحاً جلياً، فقد قدم كل أنواع الدعم، حتى إنه أجاز المؤمنين بدفع الحقوق الشرعية لتمويل عمليات الجهاد ضد الغزاة، وأرسل أيضاً للهدف ذاته مبالغ مالية كبيرة.

وفي لبنان وفلسطين، كان الإمام الخميني رضوان الله تعالى عليه يشجب باستمرار الأعمال العدوانية على هذه الشعوب، ويستنهض المسلمين لرص  صفوفهم في مواجهة عدوهم، وكان إضافةً إلى ذلك، يرعى مظلومي وفقراء فلسطين ولبنان بتوزيع المواد الغذائية عليهم، ويدعم الوجود الإسلامي والجهادي لهم بكلِّ الوسائل الممكنة.

كما وفي أثناء غزو الكويت من قبل النظام الجائر في العراق عام 1990 ، كان للإمام الخوئي  أروع المواقف في احتضان أبناء الكويت المشردين والمنكوبين، فقد أمر وكلاءه في كافة بلدان العالم التي تواجدوا فيها، احتضان أبناء الكويت المشردين من بلادهم، ودفع مبالغ كافية لرعاية شؤونهم وعوائلهم، إلى أن انجلت الأزمة، وأصدر فتواه الشهيرة إبان الغزو، بحرمة الاستفادة أو البيع والشراء من مسروقات الكويت.وكذلك موقفه الخيّر في مساعدة المظلومين من المهجّرين العراقيين قبل الانتفاضة الشعبانية عام 1991وبعدها في الخارج، ورعاية أهليهم في الداخل وما إلى ذلك.

وبما أن العراق يعتبر مجتمعاً متنوعاً في مذاهبه وطوائفه، فقد راعى الشهيد الصدر في حركته السياسية المناهضة لنظام صدام المستبد الوحدة الإسلامية القائمة على التنوع، محافظاً في الوقت نفسه على الرمزية الخاصة التي تمسك بها مختلف الشرائح الاجتماعية من قيم مشتركة، فيخاطب المسلمين في العراق: يا أخي السني ويا أخي الشيعي.. فيربط الشيعي بالسني معتبراً أن الصراع ليس موجهاً إلى السنة في الحكم، بل وجهه الحقيقي هو الاستبداد، ويلفت من ناحية أخرى إلى ضرورة تكتل كل الشرائح العراقية في سبيل قضاياها الكبرى في الوحدة، وهذا ما يدل عليه قوله:"إني منذ عرفت وجودي ومسؤوليتي في هذه الأمة بذلت الوجود من أجل الشيعي والسني على السواء، ومن أجل العربي والكردي على السواء، حيث دافعت عن الرسالة التي توحدهم جميعاً وعن العقيدة التي تهمّهم جميعا".

ولكن كما يبدو أن الوحدة التي يدعو لها السيد الشهيد يجب أن ترتكز على الإسلام دون سواه "أنا معكما يا أخي السني والشيعي، بقدر ما أنتما مع الإسلام"، في إشارة واضحة إلى الوقوف بوجه كل التيارات المنحرفة والدفاع عن الإسلام وترسيخ عقيدته، محاولاً في الوقت نفسه، إفشال المخططات الرامية إلى بث بذور الفتنة وأحداث القلاقل من خلال النفاذ إلى المجتمع واللعب على أوتار الطائفية لإحداث شرخ فيه لحرف العراقيين عن معركتهم الحقيقية ضد العدو المشترك، سواء في تمثّل ذلك الاستبداد الداخلي أو في تلك الموجات العقائدية والفكرية الوافدة من الخارج.

استاءت السلطة من حركته، فأقدمت على اعتقاله أربع مرات، وفرضت عليه الإقامة الجبرية المشددة في بيته لمدة ثمانية أشهر، وفي المرة الأخيرة حيث كانت السلطة قد أرسلت إليه موفداً من قبلها يطلب منه أن يتراجع عن مواقفه المؤيدة للجمهورية الإسلامية، وسحب فتاويه في تحريم الانتماء إلي حزب البعث وغير ذلك من أمور، ولكن هذه الطلبات جوبهت بالرفض مع علمه المسبق بعاقبة الأمور، وهو ما تاكد عندما اقدم الطاغية المقبور صدام حسين على اعدامه ، هو واخته العلوية الاديبة (بنت الهدى) صاحبة المؤلفات القصصية والتربوية ، وذلك في نيسان عام 1980.

اما دفاع الجمهورية الاسلامية عن قضايا الامة الاسلامية العامة ، فهي ابين من الشمس في رابعة النهار. ابتداء بقضية فلسطين و تخصيص الجمعة الاخيرة من شهر رمضان يوما عالميا للقدس الشريف ،الى جانب تبني قوى وفصائل الثورة الفلسطينية  ومنها حركتا (حماس) و( الجهاد الاسلامي)، ومرورا بالدفاع عن  نضالات المجاهدين الافغان في وجه الاحتلال السوفييتي ،  ومن ثم في تصديهم للغزو الاطلسي بقيادة الاستكبار الاميركي.و ايضا مساندة ايران  لجهاد اخواننا المسلمين السنة في البوسنة و الهرسك و كوسوفو.

و عندما انتصرت ثورة الشعب المصري على الاستبداد ونظام كامب ديفيد و أطاحت بساسة الظلم والتطبيع مع اسرائيل ، لم تسع الفرحة ايران قيادة و حكومة وشعبا، و كان للامام الخامنئي  كلمة تاريخية اشادت بالنهوض الاسلامي العظيم في مصر "ام الدنيا"، باعتبارها الحلقة التي كانت مفقودة او مغيبة لاكثر من 34 عاما في حركة الامة المناهضة للغطرسة الاميركية و العربدة الصهيونية في الشرق الاوسط.

صفوة القول ان ثمة من يحاول اشاعة ان الشيعة في مصر، هم كيان غريب على هذا البلد، ويحاول بقصد او دون قصد ، افتعال مبررات لاستعدائهم، و منها مزاعم انشاء "الحسينيات" في البلاد،  وهذا برأينا موقف يجانب الحقيقة، لان اتباع البيت النبوي الشريف، لهم جذور ضاربة في التاريخ الاسلامي المصري، لكن المؤسف ان العناصر الوهابية  والجماعات التكفيرية المدعومة بالمال السعودي التي باتت تنفخ في منطاد الفتنة الطائفية  واباحة الدماء الاسلامية في انحاء العالم خدمة لاجندة اسيادهم في الرياض،  دخلت على خط الفتنة في ارض الكنانة ايضا.

و الواقع ان آل سعود و الوهابيين  لا يعادون الشيعة المصريين فحسب، بل يعادون بكل ضراوة،  الصحوة الاسلامية العالمية عموما وثورة 25 يناير الاسلامية الشعبية التي اطاحت بحليفهم  الرئيس حسني مبارك. والاعتقاد السائد ان الشعب المصري المناضل يرفض الانخراط في مثل هذه المهاترات و العناوين الهامشية ،فهو لن يهنأ له بال حتى تكتمل مسيرته التحررية بمحاسبة رموز النظام السابق واستتباب الامن والعدالة الاجتماعية وإزالة سفارة العدو الصهيوني من قاهرة المعز لدين الله. وعدا ذلك ستكون حركته التغييرية منقوصة ، وغير مستوفية لاغراضها الحقيقية.

حميد حلمي زادة