العالم _ الاحتلال
هناك 3 من رجال الشرطة أمامة يستجوبونه بثقة وإلحاح، أما هو فتظهر في وجهه ولغته الجسدية علامات الارتباك والشعور بالغبن، وكأنه حيوان جريح محاصر في زاوية، في الواقع يبدو المكتب ضيقا كفاية بحيث يظهر نتنياهو محاصرا في زاوية حرفيا، وليس مجازا فقط. ثمة تقشف إسبرطي يلون المشهد كله، وثمة شيء مبتذل تفوح رائحته أيضا.
ذلك المشهد الافتتاحي للفيلم التسجيلي الأميركي "ملفات بيبي"(2024) للمخرجة الجنوب إفريقية، أليكس بلوم، مقتطع من بين ألف ساعة من تسجيلات الشرطة التي سربت، ويظهر فيها بالإضافة إلى رئيس الوزراء، زوجته وابنه وعدد من أصدقائه ورجال أعمال ومقربون من عائلته أثناء استجوابهم في قضية الفساد الموجهة إليه، وذلك أثناء سير التحقيقات بين العامين 2016 و2018.
الحبكات المحفوظة حبكات رديئة معظم الأحيان، لكنها أيضا حبكات جماهيرية وتضمن توصيل رسائل لا لبس فيها، إذ أن سير الأحداث متوقع ومعروف مسبقا، أما النهايات فهي حكم قبلية، هي نقط الانطلاق. وفي حالتنا هنا يوجز "ملفات بيبي" حكمته من البداية في أن السلطة تذهب العقل. نتنياهو، وهو أطول من خدم كرئيس وزراء في تاريخ كيان الاحتلال، لمدد متقطعة بطول 17 عاما، يظهر كبطل مأساة شكسبيرية، خليط من شخصيتي يوليوس قيصر والملك لير، لكن بعد تجريدهما من أي تعقيد.
اقرأ ايضا.. الاعلام العبري.. تعليق جلسة محاكمة نتنياهو بعد تلقيه 'تحذيرا أمنيا'
الملك أحد ألقاب تدليل نتنياهو بالفعل، إلا أن الغرور وحده ليس ما يقود بيبي إلى نهايته المحتومة. تقوم الزوجة الشريرة، سارة نتنياهو، بدور حواء المغوية. بحسب شهادات الأصدقاء المقربين والعاملين مع العائلة، سارة امرأة شرهة وسكيرة ومنفلته الأعصاب، وبالطبع تقود زوجها إلى الهلاك. بالأساس تتعلق تهم نتنياهو بتلقي هدايا من زجاجات الشمبانيا التي داومت زوجته على طلبها (المثير للحزن والسخرية معا هو أن يحاكم نتنياهو بسبب صناديق الشمبانيا، فيما تمر المجازر التي سقط ضحيتها عشرات الآلاف من القتلى بلا حساب).
هناك أيضا هدايا من علب السيجار وقطعتين من المجوهرات طلبتهما سارة من أحد رجال الأعمال. وهنا، لا يغيب الوريث. فالابن النزق، يائير نتنياهو، الذي يظنه والده جديرا بوراثته في مهنة السياسة، ذو ميول فاشية ويرى سياسات والده رخوة أكثر من اللازم. أحد الاتهامات في القضية تتعلق بتدخل يائير في السياسة التحريرية لموقع "والا!" العبري واسع الانتشار، لدرجة قيامه وهو في عمر أقرب إلى المراهقة بإجبار الموقع على فصل أحد المحررين وتعيين غيره.
لا يكتفي الفيلم بسرد قضية الفساد، بل يقدّم جردة لمسيرة نتنياهو السياسية، تتخللها ومضات من سيرته الشخصية والعائلية، ومن ثم يربط هذا كله بسياساته الحكومية. نتنياهو هو الشرير، لكنه ضحية في الوقت نفسه، ضحية الزوجة الساحرة والوريث الأهوج، وضحية الخوف من السجن، وهذا ما يجعله رهينة سياسية في أيدي حليفيه المتطرفين في الائتلاف الحكومي، سموتريتش وبن غفير. بحسب سردية "ملفات بيبي"، وهي سردية اليسار الإسرائيلي، كل ما يفعله نتنياهو بما فيه الحرب في غزة، هو محاولة يائسة ومضطربة للتشبث بالسلطة حتى لا يودع وراء القضبان. محاولة، كما في العرف التراجيدي، تهوي به وبمملكته نحو الجحيم.
شاهد ايضا.. صفقة استسلام بتوقيع نتنياهو
يقدّم الفيلم نتنياهو ككبش فداء، فجرائم الاحتلال وسياسات الاستيطان والمجازر في غزة وجرائم المستوطنين ومصير الأسرى الإسرائيليين المجهول وكارثة السابع من أكتوبر، كل هذا لا يتعلق بتاريخ طويل لدولة استيطان استعماري ومجتمع متورط بالكامل في جرائم الحرب في غزة. بل يتعلق الأمر بخطيئة شخص واحد، هو نتنياهو.