اخذ الائمة المعصومين صلوات الله عليهم يعلون على توعية الامة وتحريك طاقاتها باتجاه ايجاد وتصعيد الوعي الرسالي للشرعية ولحركة الرسول (صلى الله عليه وآله) وثورته المباركة وذلك بعد ان اخذت هذه الحركة تتضاءل طاقتها بعد رحيل النبي الاكرم صلى الله عليه وآله وسلم. ومن هنا فقد حفلت حياتهم بانواع الجهاد والصبر على طاعة الله تعالى وتحمل جفاء اهل الجفاء حتى ضربوا اعلى أمثلة الصمود لتنفيذ أحكام الله تعالى، ثم اختاروا الشهادة مع العزّ على الحياة مع الذلّ حتى فازوا بلقاء الله سبحانه بعد كفاح عظيم وجهاد كبير.
والامام موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب عليهم السلام، والمعروف بالكاظم الغيظ سابع ائمة المسلمين بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم انه من العترة الطاهرة الذين قرنهم الرسول الكريم (صلى الله عليه وآله) بمحكم التنزيل وجعلهم قدوة للاولي الالباب وسفنا للنجاة وامنا للعباد واركانا للبلاد. فلا عجب أن نری في سيرتهم الزهد والتعالي علی متع الحياة الدنيا ، والتضحية بلذائذها وبذل المال والنفس في سبيل الوصول الی الله ونيل رضوانه والعمل علی انقاذ الانسانية ووضعها علی طريق الهدی ومسيرة الايمان الخيرة.
ولد عليه السلام بالابواء – منزل بين مكة والمدينة- لسبع خلون من صفر سنة ثمان وعشرين ومائة للهجرة النبوية الشريفة. وكانت مدة امامته خمسا وثلاثين سنة، وقام بالامر وله عشرون سنة، وكانت في أيام إمامته بقية ملك المنصور ابي جعفر، ثم ملك ابنه المهدي عشر سنين وشهرا، ثم ملك ابنه الهادي موسى بن محمد، سنة وشهرا. ثم ملك هارون بن محمد الملقب بالرشيد، استشهد بعض مضي خمس عشرة سنة من ملكه مسموما في حبس السندي بن شاهك، ودفن بمدينة السلام ببغداد في المققرة المعروفة بمقابر قريش. لقد عاش الامام موسی الکاظم عليه السلام ثلاثة عقود من عمره المبارك والحکم العباسي لما يستفحل ولکنه قد عانی من الضغوط في عقده الاخير ضغوطا قلما عاناها احد من ائمة أهل البيت عليهم السلام ، من الامويين وممن سبق الرشيد من العباسيين من حيث السجن المستمر والاغتيالات المتتالية حتی القتل في سبيل الله علی يدي عملاء السلطة الحاکمة باسم الله ورسوله.
ولسنا بصدد التعرض الى تفاصيل اسباب سجن الامام الكاظم عليه السلام من قبل الرشيد،لان سلوك الإمام (عليه السلام) وتاثيره في الامة كان كافيا لان يدفع بالرشيد الذي لايتبنى حكمه على اصول مشروعة ليخطط لسجن الامام موسى بن جعفر عليه السلام وبالتالي اغتياله، هذا فضلا عن كونه الرشيد قد قطع على نفسه بداية تسلمه للحكم بانه سوف يستأصل الوجود العلوي فاذا كان هذا شعاره اول الامر مع كل العلويين فكيف بزعيم العلويين وقائدهم وسيدهم؟. وينبغي ان نفرق بين الاسباب الواقعية وبين الاسباب التي كان يتذرع بها الرشيد لتبرير سلوكه العدواني مع الامام الكاظم عليه السلام.
لقد اصبح الامام عليه السلام بعد عقد من حكم الرشيد وجودا ثقيلا على هارون لقوة تاثيره في الامة واتساع الامتداد الشيعي، ولهذا ضاق صدر الرشيد وازعجه انتشار صيت الامام عليه السلام لان الناس غدت تتناقل مآثر الامام وعلمه وأخلاقه. وكانت حادثة زيارة هارون لقبر الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ولقاء الامام الكاظم عليه السلام به بحيث اغضب الرشيد حت قال بعده مخاطبا الرسول (صلى الله عليه وآله):"بابي انت وامي إني اعتذر من امر عزمت عليه، اني اريد ان آخذ موسى بن جعفر فاحبسه لاني قد خشيت ان يلقي بين امتك حربا يسفك بها دماءهم"!.
ولقد كان للوشاة دور سلبي ضد الامام موسى الكاظم عليه السلام فلقد تحرك يحيى بن خالد قبل ذلك ليهيىء مقدمات اعتقال الامام فاغرى ابن اخ الامام محمد بن اسماعيل او على بن اسماعيل لغرض الوشاية بالامام. وقرر الرشيد اخيرا اعتقال الامام عليه السلام حيث تم ذلك بسرعة واخفاءه وتعميمه على الامه لئلا تعرف محل سجن الامام عليه السلام. فبعد زيارة الرشيد لقبر الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وقائه بالامام الكاظم عليه السلام امر الطاغية هارون باعتقال الامام (عليه السلام) وفعلا القي القبض على الامام وهو قائم يصلى عند راس جدّه النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولم يمهلوه لاتمامها.
فحمل وقيد فشكى الإمام لجده الرسول (صلى الله عليه وآله) قائلا: "اليك اشكو يارسول ا لله". وبعد اعتقال الامام غدت الناس تتحدث فيما بينها باستنكار هذا الحدث المهم، فتألمت الامة كثيرا فلم يبق قلب الا وتصدع من الاسى والحزن فخافت السلطات ان يكون اعتقال الامام محفزا للثورة عليها. فحمل جملين واحدا الى البصرة والثاني الى الكوفة لغرض الايهام على الناس اي لئلا يعرف محل حمل الامام في ايهما. وسارت القافلة تطوي البيداء حتى وصلت البصرة ودفع الامام عليه السلام الى عيسى بن ابي جعفر فحبسه في بيت من بيوت المحبس واقفل عليه ابواب السجن فكان لايفتحها في حالتين: احدهما في خروجه للطهور، والاخرى لادخال الطعام له عليه السلام. واوعز الرشيد الى عيسى يطلب منه فورا القيام باغتيال الامام (ع) لكن لما وصلت اوامر الرشيد باغتيال الامام الكاظم عليه السلام ثقل عليه الامر، وكتب الى الرشيد يطلب منه اعفاءه عن ذلك. واستجاب الرشيد لطلب عيسى وخاف من عدم تنفيذه لطلبه ان يساهم في اطلاق سراح الامام عليه السلام ويخلي سبيله فأمره بحمله الى بغداد وفرح عيسى بذلك ولما وصل الامام الى بغداد دفع بامر الرشيد الى الفضل فاخذه وحبسه في بيته. ولما طال مدة حبس الامام موسى بن جعفر عليه السلام وهو رهين السجون توسل الامام الى الله تعالى داعيا اياه ان يخلصه من سجن الرشيد، واستجاب الباري سبحانه دعاء العبد الصالح فانقذه من سجن الطاغية هارون واطلقة في غلس الليل. لقد مكث الامام عليه السلام في سجن الفضل مدة طويلة من الزمن لم يعيّنها لنا التاريخ. وبقي عليه السلام في بغداد بعد اطلاق سراحه ولم يخرج منها الى يثرب وكان يدخل على الرشيد في كل اسبوع مرة يوم الخميس وبامر من الرشيد. ولما شاع ذكر الامام الكاظم عليه السلام وانتشرت فضائله ومآثرة في بغداد ضاق الرشيد من ذلك ذرعا وخاف منه فاعتقله ثانية فاودعه في بيت الفضل بن يحيى. ولمارأى الفضل عبادة الإمام عليه السلام واقباله على الله وانشغاله بذكره أكبر الإمام، وسع عليه سجنه وقد رأى عليه السلام من السعة في سجن الفضل ما لم يرها في بقية السجون. ولمّا أوعز الرشيد للفضل باغتيال الإمام عليه السلام امتنع ولم يجبه الى ذلك وخاف من الله لأنه كان ممّن يذهب الى الإمامة ويدين بها، وهذا هو الذي سبب تنكيل الرشيد بالفضل واتهام البرامكة بالتشيع.
وبعد سجن الفضل أمر هارون بنقل الإمام عليه السلام الى سجن السندي بن شاهك وأمره بالتضييق عليه فاستجاب هذا الاثيم لذلك فقابل الإمام عليه السلام بكل جفوة وقسوة، والإمام صابر محتسب فأمره الطاغية أن يقيّد الإمام عليه السلام بثلاثين رطلا من الحديد ويقفل الباب فيوجهه ولا يدعه يخرج الاّ للوضوء. وامتثل السندي لذلك فقام بإرهاق الإمام عليه السلام وبذل جميع جهوده للتضييق عليه، ووكّل بشّاراً مولاه، وكان من أشد الناس بغضاً لآل أبي طالب ولكنه لم يلبث أن تغير حاله وآب الى طريق الحق; وذلك لما رآه من كرامات الإمام عليه السلام ومعاجزه، وقام ببعض الخدمات له. هذا وقام الامام موسى بن جعفر عليه السلام بنشاط متميز من داخل السجن واهمها:
*1-عبادته داخل السجن: أقبل الإمام كما قلنا على عبادة الله تعالى فكان يصوم النهار ويقوم الليل ولا يفتر عن ذكر الله.
*2- اتصال العلماء به: واتّصل جماعة من العلماء والرواة بالإمام عليه السلام من طريق خفي فانتهلوا من نمير علومه فمنهم موسى بن إبراهيم المروزي، وقد سمح له السندي بذلك لأنّه كان معلّماً لولده، وقد ألّف موسى بن إبراهيم كتاباً مما سمعه من الإمام.
*3- ارسال الاستفتاءات اليه: وكانت بعض الأقاليم الإسلامية التي تدين بالإمامة ترسل عنها مبعوثاً خاصاً للإمام عليه السلام حينما كان في سجن السندي، فتزوده بالرسائل فكان عليه السلام يجيبهم عنها، وممن جاءه هناك علي بن سويد، فقد اتّصل بالإمام عليه السلام وسلّم إليه الكتب فأجابه عليه السلام.
*4- نصب الوكلاء: وعيّن الإمام عليه السلام جماعة من تلامذته وأصحابه، فجعلهم وكلاء له في بعض البلاد الإسلامية، وأرجع إليهم شيعته لأخذ الأحكام الإسلامية منهم، كما وكّلهم في قبض الحقوق الشرعية، لصرفها على الفقراء والبائسين من الشيعة وانفاقها فيوجوه البر والخير، فقد نصب المفضل بن عمر وكيلا له في قبض الحقوق وأذن له في صرفها على مستحقيها.
ومن هنا بدأت ظاهرة الوكالة في تخطيط أهل البيت عليهم السلام لإدارة الجماعة الصالحة وتطوّرت فيما بعد بمرور الزمن. كما سوف نلاحظ ذلك في حياة الإمام الجواد والهادي والعسكري والإمام المهدي عليهم السلام .
*5- ونصب الإمام عليه السلام من بعده ولده الإمام الرضا عليه السلام فجعله علماً لشيعته ومرجعاً لاُمة جدّه.
*6- وصيته عليه السلام: وأوصى الإمام عليه السلام ولده الإمام الرضا عليه السلام وعهد إليه بالأمر من بعده على صدقاته ونيابته عنه في شؤونه الخاصة والعامة وقد أشهد عليها جماعة من المؤمنين وقبل أن يدلي بها ويسجّلها أمر باحضار الشهود.
*7- صلابة الامام وشموخه امام ضغوط الرشيد: وبعد ما مكث الإمام عليه السلام زمناً طويلا في سجن هارون تكلّم معه جماعة من خواصّ شيعته فطلبوا منه أن يتكلم مع بعض الشخصيات المقرّبة عند الرشيد ليتوسط في اطلاق سراحه، فامتنع عليه السلام وترفّع عن ذلك وقال لهم: حدثني أبي عن آبائه أن الله عزّ وجلّ أوحى الى داود، يا داود إنه ما اعتصم عبد من عبادي بأحد من خلقي دوني، وعرفت ذلك منه الاّ قطعت عنه أسباب السماء، وأسخت الأرض من تحته.
لقد عانى الإمام الكاظم عليه السلام أقسى ألوان الخطوب والتنكيل، فتكبيل بالقيود، وتضييق شديد في التعامل معه ومنعه من الاتصال بالناس، وأذى مرهق، وبعد ما صبّ الرشيد عليه جميع أنواع الأذى أقدم على قتله بشكل لم يسبق له نظير محاولا التخلص من مسؤولية قتله وذهب أكثر المؤرخين والمترجمين للإمام الى أن الرشيد أوعز الى السندي بن شاهك الأثيم بقتل الإمام عليه السلام فاستجابت نفسه الخبيثة لذلك وأقدم على تنفيذ أفضع جريمة في الإسلام فاغتال حفيد النبي العظيم صلى الله عليه وآله. فعمد السندي الى رطب فوضع فيه سماً فاتكاً وقدّمه للإمام فأكل منه عشر رطبات فقال له السندي "زد على ذلك" فرمقه الإمام بطرفه وقال له: "حسبك قد بلغت ماتحتاج اليه". واستشهد في الخامس والعشرين من رجب سنة (183هـ) وقيل سنة (186هـ) وكانت شهادته في يوم الجمعة وعمره الشريف كان يوم استشهاده خمسا وخمسين سنة او اربعا وخمسين سنة.
فسلام عليه وعلى الائمة الهداة الميامين من آبائه وأبنائه، سلاما دائما مع الخالدين.
محمد بسامي