هل اتفقت فصائل الثورة الفلسطينية على حدود الدولة الفلسطينية العتيدة، وأصبحت الخارطة التي وزعتها دولة قطر على هامش الدورة الرياضية العربية هي الخارطة الرسمية للدولة الفلسطينية، وعلى أساسها يجب أن تمضي المفاوضات، وتبنى المواقف، ويلتقي الفلسطينيون، وعلى هداها اتفقت الأطراف الفلسطينية في اجتماعاتها الأخيرة في القاهرة، فوحدت موقفها السياسي من حدود الدولة، وأصبح خطابها إلى العالم واضحاً وصريحاً أن حدود الرابع من حزيران لعام 1967 هي حدود الدولة الفلسطينية، وهي أقصى ما نطالب به، فلا نريد أكثر من ذلك، ولا نطالب بالمزيد من الأرض، ولا نزاحم إسرائيل على ما اغتصبت، ولن نطالبها بالانسحاب من الأرض استعمرت.
كما وحدت من قبل موقفها من إستراتيجية المقاومة، فأبدت قبولها بالمقاومة السلمية الشعبية، واحترامها لخيار المفاوضات، وأبدت استعدادها لأن تمنح فريق المفاوضات فرصة جديدة، وتجربة أخرى من الحوار مع الاحتلال الإسرائيلي، علها تنجح معه هذه المرة، وتنال منه ما عجزت عن نيله في الجولات السابقة، وتحقق من خلال مسار السلام أحلام الشعب الفلسطيني في دولةٍ على جزءٍ من أرضه، يرفع فوقها علم بلاده، ويمارس عليها سيادته، ويتمتع فيها بحريته، ويبني من خلالها علاقاته الدولية، وتكون فيها سفاراتٌ أجنبية، ومؤسساتٌ دولية، وإرادة وطنية مستقلة، رغم أن أحداً في المجتمع الدولي لم يشجعهم على موقفهم ولم يؤيدهم في سياستهم الجديدة، إذ أنهم لا يضمنون دولة الاحتلال، ولا يقوون على فرض موقفٍ عليها، أو إكراهها على قبول ما لا تحب وترضى، وهي لن يرضيها أن يكون للفلسطينيين دولة ووطن.
الفلسطينيون من أكثر دولة العالم ثقافةً ووعياً سياسياً، وهم أكثر من اكتوى بنار السياسات الدولية والتوازنات الإقليمية، إنهم يحسنون قراءة الأحداث السياسية والمتغيرات الدولية، ويفهمون الأسس التي تقوم عليها الاستراتيجيات، وتبنى على أساسها المواقف، ويعرفون مآلات الأشياء ومصائر السياسات، ويدركون إلى أين تمضي بهم المراكب، وإلى أين تسير بهم قياداتهم، ولكنهم يتطلعون إلى أن يكون القرار قرارهم، والموقف نابعٌ من شعبهم، والتوجه معبرٌ عن إرادتهم، فقد قاتلوا طويلاً من أجل القرار المستقل، وضحوا في سبيله بآلاف الرجال، وخسروا لأجله مواقع وقواعد ومكاسب وامتيازات من أجل أن يبقى القرار الفلسطيني قراراً حراً مستقلاً معبراً عن إرادة الفلسطينيين، وناطقاً باسمهم، وصادراً عن شعبهم صاحب القضية والأهلية والشرعية.
لم تعلق الحكومة الإسرائيلية على الخارطة القطرية، ولم تبد تأييدها لما قامت به حكومة قطر، كما لم تشكرها على أنها ثبتت خارطة إسرائيل على بقية الأرض الفلسطينية، وأبقت على اسمها فوق 70% من أرض فلسطين التاريخية، ولما سكتت الحكومة الإسرائيلية سكت الآخرون أجمعين، لم يحركوا ساكناً، ولم يصدروا موقفاً، ولم يشكروا قطر على مبادرتها، ولكن الخرس أصاب المفاوضين الفلسطينيين أيضاً، فسكتوا عما قامت به قطر، ولم يعقبوا على تصرفها، ولم ينتقدوا ما أقدمت عليه في مناسبةٍ عربية رسمية، ولم يعترضوا عليه أمام وسائل الإعلام أو خلف الكواليس، وكأنهم يباركون لقطر ما قامت به، أو لا يقوون على استنكار ما قد أعلنته، وقد كان حرياً بالقوى الفلسطينية أن ترفض وأن تستنكر، وأن تغضب وتعبر عن استيائها واستنكارها، وأن تفعل ما فعلته المملكة المغربية التي أغاظها توزيع خارطة بلادها دون الصحراء المغربية، أو أن تكون مثل شعبها الفلسطيني الذي استنكر شطب قطر لأرضه، وتجاوزها لحقه.
فهل استطاعت قطر أن تقرب وجهات النظر، وأن ترأب الصدع الفلسطيني في القاهرة، وأن تنهي الإشكاليات والتناقضات القائمة بين الأطراف والفرقاء الفلسطينيين الذين صمتوا عن إجرائها واعتبروه قاسماً مشتركاً وأساساً للتفاهم ونقطةً لبدء حوار مشترك، فمهدت لتفاهم أعمق في القاهرة قد يكون هو الأخطر والأكثر تأثيراً على مستقبل القضية الفلسطينية، فكانت خطوتها التي رضي عنها البعض وسكت عنها آخرون أبلغ من كل الوساطات، وأقوى من كل الجهود، ففعلت فيهم فعل السحر، فقربت بينهم، وأنهت خلافاتهم، وأذابت الجليد الذي بينهم، وفتحت أمامهم آفاقاً كانت مغلقة، وفضاءاتٍ كانت مسدودة، وسهلت للقاهرة ما كان عصياً عليها، وهي التي بذلت بعد الثورة جهوداً كبيرة، وقضت مع المتفاوضين أياماً طويلة، ولكنها ما كانت لتصل معهم إلى ذات النتيجة.
الشعب الفلسطيني الذي يتطلع إلى المصالحة الوطنية ويريدها، وترنو عيونه إلى استعادة بريقه وعودة البهاء إلى صورته ومسيرة مقاومته، كان يتمنى أن تكون حاجاته وآلامه، وآماله وتطلعاته، ومصالحه ومستقبله، هي الدافع وراء تحقيق المصالحة، وأن يكون قرار التوصل إليها نابعاً من حاجة الشعب إلى الوحدة، ومن حاجة الأهل إلى التئام الشمل، وحاجته إلى تضميد جراحه، وعلاج جرحاه، وحل مشاكله، وتجاوز الصعاب والعقبات التي توضع في طريقه، فهل أستشير الشعب الفلسطيني على أرضه وفي شتاته على أسس الاتفاق وقواعد المصالحة واللقاء، وهل استمعوا لرأيه في مستقبله وفي الحلول التي يرى أنها قادرة على حل مشاكله، وتجاوز خلافاته.
للشعب الفلسطيني رأيٌ يجب أن يسمع، وله كلمة يجب أن يسمح له بقولها، وله موقفٌ يجب أن يحترم ويقدر، فلا يقرر في مصيره جمعٌ من الفلسطينيين أياً كانوا، ولا ينطق باسمهم من لم يختارهم الشعب ممثلين عنه، ولا ناطقين باسمه، إنهم موظفين ليسوا أكثر، يتقاضون على جهودهم رواتب وحوافز، ويستمتعون في حواراتهم بالسفر والترحال، ولكن للشعب أماني غير أمانيهم، وعندهم حساباتٌ غير حساباتهم، ولهم تطلعات غير تطلعاتهم، فهم لا يخشون الفاقة إذ يعيشونها، ولا يخافون الحرمان إذ يعانونه، ولا يأبهون بالعراء لأنه مكانهم، ولا يقلقون على المستقبل لأنه بأيديهم، ولا ينافقون لأنهم ليسوا بحاجة، ولا يداهنون لأنهم لا مصلحة لهم عند غيرهم، ولا يفرطون في المقاومة لأنها عزهم، ولا يتخلون عن الوطن لأنه بيتهم، ولا يتنازلون عن العودة لأنها حقهم، فهل يسمع رأيهم ؟ ..