العالم - السودان
هذاومن دون ظهير يعوِّل عليه بعدما غابت "قوى الحرية والتغيير" عن الاتفاق الذي اشترط ضرورة تعديل الوثيقة الدستورية الناظمة للحُكم الانتقالي.
بينما كانت شوارع الخرطوم تضيق بالمتظاهرين الرافضين للانقلاب العسكري، كان رئيس الوزراء المُقال، عبدالله حمدوك، يخرج من منزله الذي ظلّ فيه رهن الإقامة الجبرّية منذ الـ25 من تشرين الأوّل الماضي، متوجّهاً إلى القصر الجمهوري ليوقِّع مع قائد الانقلاب، عبد الفتاح البرهان، اتفاقاً سياسياً عدَّه كثيرون «خيانة للثورة» ونكوصاً غير متوقَّع منه.
خطوة حمدوك المفاجئة، أربكت الشارع، والمشهد السياسي في البلاد، إذ بدا الاتفاق الموقَّع بين الجانبين، بصفتيهما الرسميتَين كرئيسَيْن لمجلسَي الوزراء والسيادة، وكأنه محاولة لإنقاذ الجنرال من تَيْه خطوته الانقلابية التي تعثّرت أمام متاريس الرفض الداخلي العارم، ومطبّات المجتمع الدولي والاتحاد الأفريقي.
على أن أحداً لا يمتلك تفسيراً لِمَا أقبل عليه حمدوك، غيره، وهو الذي أوضح في تصريح، عقب مراسم التوقيع على الاتفاق التي جرت بشكل موجز وبسيط في القصر الجمهوري، أنه فعل ذلك من أجل حقْن دماء السودانيين، وحفْظ البلاد من الانزلاق إلى فوضى محتملة، وفكّ الاختناق الداخلي والخارجي، واستعادة المسار لتحقيق ديموقراطية مستدامة، وإتاحة إمكانية المحافظة على مكتسبات العامَين الماضيَين، بخاصّة في ما يتعلّق بالسلام والاقتصاد»، فضلاً عن تحصين الانتقال المدني الديموقراطي نفسه، عبر توسيع قاعدته.
في المقابل، جدَّد المحتجون مطالبهم بإسقاط الانقلاب وعدم العودة إلى الشراكة مع العسكر مجدداً ومحاكمة المتورّطين في قتل المتظاهرين السلميين وعودة الجيش إلى ثكناته وإخلائه من المجال السياسي.
كما ندَّدوا بالاتفاق، واعتبروه خيانةً للثورة وشهدائها وعبثاً بدمائهم لأجل مكاسب سياسية»، كونه «يخرق الوثيقة الدستورية التي أعاد البرهان العمل بها بعد تعيينه للمجلس السيادي الجديد.
البند الثاني من الاتفاق السياسي الجديد الذي يشدِّد على ضرورة تعديل الوثيقة الدستورية بالتوافق، وبما يحقِّق ويضمن مشاركة سياسية شاملة لكافة مكوّنات المجتمع عدا الحزب الحاكم السابق المؤتمر الوطني، عدّه الباحث السياسي عثمان دلدوم، دعماً مباشراً للانقلابيين الذين عبّروا مراراً عن رغبتهم في إدخال تعديلات على عدد كبير من مواد الوثيقة الدستورية الحاكمة للمرحلة الانتقالية، قبل أن يلغوا فعلياً أهم موادها عقب انقلابهم.
ويقول دلدوم، لـ»الأخبار»، إن «أخطر ما احتواه الاتفاق السياسي الجديد، عدم إشارته إلى مكونات قوى إعلان الحرية والتغيير التي وقّعت الوثيقة الدستورية مع الطرف العسكري في آب من عام 2019، باعتبارها الحاضنة السياسية للحكومة الانتقالية، وهي التي اختارت عبدالله حمدوك نفسه رئيساً لمجلس الوزراء الانتقالي، فيما أبقى على اتفاق جوبا للسلام مع الحركات المتمرّدة السابقة، الذي وُقِّع في تشرين الأوّل 2020، ما يعني أن الحركات المسلَّحة ستُمثِّل الحاضنة الجديدة لحكومة حمدوك المقبلة».
وبناءً على ذلك، يضيف: «أصبح الوضع الانتقالي برمّته تحت تصرُّف الأطراف المسلّحة».
لا مرجعية دستورية
ينوّه دلدوم إلى وجود تناقض كبير بين المادتَين الأولى والسادسة الواردتَين في الاتفاق.
مشيراً إلى أنه فيما تؤكد المادة الأولى أن الوثيقة الدستورية لسنة 2019، تعديل 2020، هي المرجعية الأساسية للمرحلة الانتقالية، تأتي المادة السادسة لتنصّ على أن تكون إدارة المرحلة الانتقالية بموجب إعلان سياسي يحدِّد إطار الشراكة بين القوى الوطنية (السياسية والمدنية) والمكوّن العسكري والإدارة الأهلية (زعماء القبائل)، ولجان المقاومة وقوى الثورة الحيّة وقطاعات الشباب والمرأة والطرق الصوفية، وهو ما يتناقض بدوره مع ما ورد في المادة الرابعة التي حدَّدت بالفعل مهام مجلسَي السيادة والوزراء.
إذ نصَّت على أن يكون مجلس السيادة الانتقالي مشرفاً على تنفيذ مهام الفترة الانتقالية الواردة في المادة 8 من الوثيقة الدستورية، من دون التدخُّل المباشر في العمل التنفيذي.
خلاصة ذلك، أن الحكومة المقبلة، ستجد نفسها في وضع دستوري مرتبك، بين الوثيقة الدستورية 2019، المعدلة 2020، وبين الاتفاق السياسي الحالي بين البرهان وحمدوك، وبين الإعلان السياسي المقترح، الذي أشارت إليه المادة السادسة من الاتفاق.
بالتالي، لن تجد مرجعية دستورية موحَّدة إذا طرأ خلاف بين طرفَيها: مجلسَي السيادة والوزراء»، بحسب قول دلدوم.
لمصلحة البرهان
وترى الباحثة القانونية، سامية سيد أحمد، أن مواد الاتفاق غير محكمة قانونياً لجهة أنها كُتبت بلغة مترهّلة وعبارات غير محدَّدة وحمّالة أوجه.
وتلفت، في حديث إلى «الأخبار»، إلى أن «ما ورد في عجز المادة الأولى عن معالجة الأزمة في شرق السودان، جاء على نحوٍ غامض وغير مفهوم"، إذ نصّ على "مراعاة الوضعية الخاصة في شرق السودان والعمل سوياً على معالجتها في إطار قومي يضمن الاستقرار بصورة ترضي أهل الشرق".
وهذا في الواقع "نصّ مفخّخ يمكن استغلاله سياسياً لإعادة تدوير الأزمة".
وتشير إلى أن هناك مواد مماثلة، مِن مِثل المادة السابعة التي تقضي بإطلاق سراح جميع المعتقلين السياسيين، من دون أن تحدِّد ما إذا كان ذلك يتضمّن المعتقلين من رموز النظام السابق بمَن فيهم عمر البشير نفسه، أم الذين اعتُقلوا عقب الانقلاب الأخير.
إلّا أن هناك مواد أخرى جيّدة، على رغم أنها ليست جديدة كونها وردت في الوثيقة الدستورية.
بالتالي فهي تحصيل حاصل، بعبارة سيد أحمد، مثل المادة التاسعة الخاصّة بتشكيل المجلس التشريعي (البرلمان)، والعاشرة المتعلّقة بتنظيم مؤتمر قومي دستوري، والثالثة عشر القاضية بتكوين جيش قومي موحّد.
أما المادتَان 11 و12 الخاصّتَان بـ"لجنة تفكيك النظام السابق" والتحقيق في قتل المتظاهرين، فيبدو أنهما وُضِعتا كي يتمّ خرقهما لاحقاً.
وتصف سيد أحمد الاتفاق بـ"الضعيف فنيّاً والمتناقض والمفخَّخ، فضلاً عن أنه قابل للاستغلال والخرْق من قِبَل العسكر".
وتضيف: "لم يكن من داعٍ له في الأساس، إذ كان من الأجدى طالما جرى التأمين في المادة الأولى منه على حاكمية الوثيقة الدستورية للمرحلة الانتقالية، أن يعمد إلى تحسينها وإحكام نصوصها وصياغتها بشكل جيد ولغة قانونية محدَّدة وقاطعة".
وساطة مصرية ـــ سعودية تحمي البرهان
كشف مصدر مصري مطّلع، لـصحيفة »الأخبار»، عن زيارة قام بها وفد استخباري مصري للخرطوم، أخيراً، بهدف تسهيل التفاوض حول الاتفاق السياسي الذي جرى توقيعه، وخصوصاً في ظلّ عدم قدرة قائد الجيش السوداني، عبد الفتاح البرهان، على فرض سياسة الأمر الواقع.
وتلقّى البرهان، وفق المصدر، تحذيراً واضحاً مفاده بأن استمرار الوضع على ما هو عليه وتوقيف حمدوك، لن يكون في مصلحته أو في مصلحة السودان، وسط رغبة دولية في التحرك ضدّه حاولت مصر والسعودية تأخيرها أطول وقت ممكن.
ولفت إلى أن البرهان اضطرّ إلى توقيع الاتفاق الجديد بعد ضمانة حمايته من الملاحقة والمحاسبة.
وبحسب المصدر، فإن السودان سيدخل مرحلة انتقالية جديدة تحظى بتوافق على مضض بين المكوّنَين العسكري والمدني مع التأكيد على إبقاء الشراكة إلى حين إجراء الانتخابات.