العالم - مصر
يجب أن نتوقف أمام هذه التواريخ جيداً، حتى يمكننا استيعاب ما حدث على امتداد الأعوام السبعة المشار إليها، مع الوضع في الاعتبار أيضاً العامين السابقين على تلك الأحداث، وتحديداً منذ أحداث ٢٥ يناير ٢٠١١ في مصر، إلا إننا يجب أن نشير أولاً إلى أن هذا السد ظل أملاً يراود الإثيوبيين منذ ستينيات القرن الماضي، في عهد الرئيس جمال عبدالناصر، بوازع إسرائيلي وغربي من جهة للانتقام من مصر، ووازع كنسي من جهة أخرى للضغط على مصر، إلا أن اليد الطولى لمصر على امتداد القارة الأفريقية في تلك الآونة حالت دون ذلك، واستمر هذا الوضع طيلة فترة حكم الرئيسين أنور السادات وحسني مبارك، اللذين كانا يرفضان مجرد التفاوض حول هذا الموضوع، إدراكاً منهما لأهمية النيل في حياة المصريين من ناحية، ومن ناحية أخرى إدراكاً لخطورة ما يجري على الأمن القومي لمصر بشكل عام.
ويمكن أن نجمل الأحداث المتتالية فيما بعد في النقاط العشر التالية:
أولاً: عادت فكرة المشروع إلى الوجود بقوة مرة أخرى عام ٢٠١٠، على أن يبدأ التنفيذ الفعلي عام ٢٠١١، بناء على توصيات إسرائيلية تؤكد أن متغيرات كبيرة سوف تشهدها مصر خلال ذلك العام، وبالفعل قامت إثيوبيا في أغسطس ٢٠١٠ بمسح موقع السد، بالتزامن مع عمل التصميمات الهندسية، وما إن علمت مصر بذلك حتى شكلت لجنة على الفور من وزارات الخارجية والداخلية والدفاع والري والكهرباء، للمتابعة ودراسة الموضوع من كل الوجوه، وفي هذا الإطار ذكرت وثائق وزارة الخارجية الأمريكية التي سربها موقع ويكيليكس، أن الرئيس حسني مبارك طلب من السودان حينذاك إنشاء قاعدة عسكرية تستخدمها مصر إذا بدأت إثيوبيا في التنفيذ على أرض الواقع.
ثانياً: ومع أحداث يناير ٢٠١١ في مصر، فترة حكم المجلس العسكري تحديداً، بدأت إثيوبيا بتمهيد أرض المشروع، والاتصال بمكاتب خبرة عالمية في هذا الصدد، دون أن يحرك المجلس العسكري ساكناً، على الرغم من أن هذا المجلس كان الحاكم الفعلي للبلاد على كل المستويات، إلى أن قام وفد شعبي من مختلف القوى السياسية في ٢٩ أبريل ٢٠١١ بزيارة إلى إثيوبيا لمدة أربعة أيام، لحث المسئولين هناك على (عدم الإضرار بمصر)، فيما يشبه المسرحيات الهزلية، ويكفي أن نشير في هذا الصدد إلى أن المسئولين الإثيوبيين عبروا عن شكرهم للوفد المصري، على (الإطاحة بالرئيس مبارك) لأنه (كان يمنعنا من إنشاء السد).. هكذا نصاً، وكأن الوفد قد ذهب لمباركة البناء، بل حدث ما هو أكثر هزلاً، وهو أن الوفد الشعبي المصري، هو الذي طلب -لحاجة في نفس يعقوب- تسمية المشروع بسد النهضة، بدلاً من سد الألفية، وهو الاسم الذي كانت قد أطلقته إثيوبيا في ذلك الوقت.
ثالثاً: ظلت إثيوبيا على مدى ثلاثة اعوام تقوم بأعمال تمهيدية بموقع السد، بموازاة الاستعانة بمكاتب الاستشارات الخارجية لتنفيذ التصميمات، إلا أنها لم تجد تمويلاً في ذلك الوقت من أي نوع لتنفيذ المشروع، سوى فتح باب الاكتتاب الداخلي لديها للمواطنين، وإجبار البنوك المحلية أيضاً على المساهمة بقروض بفوائد ميسرة، ثم فتحت باب الاكتتاب للإسرائيليين، وكان تنشر الإعلانات في الصحف الإسرائيلية والشوارع في تل أبيب وغيرها من المدن تحت عنوان (معاً ضد مصر)، في إشارة إلى الهدف من إنشاء السد، في الوقت الذي كانت مصر تتحدث فيه عن سلام دافئ مع "إسرائيل"، ليصل إجمالي ما حققته إثيوبيا طوال السنوات الثلاث، أقل قليلاً من مليار دولار، وهو مبلغ لا يكفي لإنشاء مشروع بهذا الحجم، ذلك أنها تحتاج إلى خمسة مليارات دولار على أقل تقدير.
رابعاً: في ٣ / ٦ / ٢٠١٣ ترأس الرئيس الأسبق محمد مرسي جلسة حوار وطني، دعا إليها الأحزاب والقوى السياسية والأزهر والكنيسة، لبحث تأثير السد على مصر، وقال نصاً: إن إثيوبيا ما زالت في مرحلة التمهيد لبناء السد، الآن هُم في المرحلة الأولى وهي الإعداد للإنشاء، والمرحلة الثانية هي مرحلة الإنشاء والتخزين، والمرحلة الثالثة، هي مرحلة الإدارة، ويجب أن نشارك في المراحل الثلاثة، ذلك أن مرحلة الإدارة تضمن تنفيذ ما تم الاتفاق عليه، وهو الاتفاق الذي يجب أن يتضمن كل شي من خلال أطراف دولية، وقال إن رئيس الوزراء الإثيوبي قال له: إن مصر لن تضار بكوب ماء واحد، إلا أننا -على حد قوله- لا نريد ترك الأمر للوعود الشفهية، وقد شهدت هذه الجلسة أطروحات عديدة من المشاركين تمحورت حول أهمية استخدام القوة مع إثيوبيا، أو على الأقل التلويح بها، وهي الجلسة التي أثارت لغطاً واسعاً آنذاك نتيجة إذاعتها على الهواء مباشرة.
خامساً: في ٢٣ أبريل ٢٠١٤، في ظل رئاسة الرئيس المؤقت عدلي منصور، جاء القرار المفاجئ من كل من الاتحاد الأوروبي وروسيا والصين والبنك الدولي، بوقف تمويل السد الإثيوبي، على اعتبار أن هذا الاستثمار غير آمن لوجود خلافات مع دولتي المصب -مصر والسودان- وهو الأمر الذي أربك القيادة الإثيوبية إلى أبعد حد، وتوقف العمل تماماً في العمليات التمهيدية للبناء، وفي ذلك الحين أكدت وزارة الري المصرية في تعليقها: أن وزارة الخارجية خاضت معركة دبلوماسية شاقة من أجل استصدار هذا القرار، وإقناع هذه الدول والبنك الدولي بوقف تمويل السد، لما سيوقعه من أضرار جسيمة على مصر، وبالفعل تم تجميد قروض دولية بقيمة ٣،٧ مليار دولار.
سادساً: مع اقتراب الانتخابات الرئاسية المصرية، كانت هناك اتصالات سعودية – إماراتية مع إثيوبيا التي كانت ترأس الاتحاد الأفريقي طوال عام ٢٠١٣، لرفع العقوبات عن مصر وعودتها إلى الاتحاد، ذلك أن لإثيوبيا دور فاعل أيضاً في القارة، نتيجة وجود مقر الاتحاد الأفريقي لديها، وهنا كانت بداية سلسلة التنازلات والمؤامرات في الوقت نفسه، التي بدأت بتبرع رجل الأعمال السعودي محمد العمودي بمبلغ ٨٨ مليون دولار لإنشاء السد، ثم سلسلة استثمارات سعودية بلغت خمسة مليارات دولار، وإماراتية بلغت ٣،٢ مليار، وتم تتويج كل ذلك بتوقيع الرئيس عبدالفتاح السيسي على إعلان المبادئ، الذي لم ينص فيه على حقوق مصر التاريخية في مياه النيل من جهة، ومن جهة أخرى منح الشرعية للسد، حيث أصبح القرار الدولي بوقف التمويل بلا معنى، فهرعت العواصم المختلفة والبنك الدولي لتمويله أيما تمويل.
سابعاً: بمجرد توقيع الرئيس السيسي على إعلان المبادئ، شرع على الفور في العمل بالداخل على ثلاثة محاور، ظناً منه أنها سوف تغطي العجز المنتظر في مياه النيل، وهي تبطين الترع، وتحلية مياه البحر، وتنقية مياه الصرف الصحي، من خلال مشاريع متعددة وعملاقة ومكلفة جداً، في دلالة على أنه كان يعي تماماً عواقب ذلك التوقيع، الذي سوف يحرم مصر من حصتها في مياه النيل، بما يشير أيضاً إلى أن كل المفاوضات التي شاركنا فيها، من أديس ابابا، إلى الخرطوم، إلى القاهرة، إلى واشنطن، على امتداد ستة أعوام، من ٢٠١٥ حتى ٢٠٢١ كانت تحصيل حاصل، أو ذراً للرماد في العيون، وبما يوضح أسباب تلك الثقة التي يتحدث بها الإثيوبيون، من أن مصر لن تفعل أي شئ حيال السد، وأن الأمر الواقع يفرض نفسه.
ثامناً: وجود "إسرائيل" طرفاً في هذه القضية، منذ بدايتها، يجعلنا نتوقف أمام ذلك الاختيار التآمري لموقع السد، ذلك أن العديد من الدراسات أشارت، إلى أنه يقع على فوالق جيولوجية، يحتمل معها انهياره بمجرد اكتمال عملية الملء أو ربما قبل ذلك، نتيجة أي زلزال متوقع، كما أن عملية التصميم والإنشاء في حد ذاتها بها من العيوب الفنية الكثير، لذا فإن أديس أبابا رفضت إمداد مصر بنسخ منها، أو حتى مجرد الاطلاع عليها، وبذلك فإن تهديد الغرق والدمار لكل من مصر والسودان، لا يقل أبداً عن تهديد الجفاف وشح المياه، بل يزيد أضعافاً مضاعفة.
تاسعاً: على الرغم من أن هناك زخماً ودعماً شعبياً مصرياً، غير مسبوق، لأي عملية عسكرية تستهدف تدمير السد، إدراكاً من المواطنين لخطورة الوضع على الأجيال المقبلة، وعلى الوجود المصري عموماً، إلا أن الشارع انشغل بعمليات إلهاء مبرمجة، تم تتويجها بمسلسلات رمضان، بجانب الإعلان عن مشروعات بديلة لمياه النيل، لن تسمن ولن تغني من جوع أبداً، خاصة إذا علمنا أن كل مشروعات تحلية مياه البحر على سبيل المثال، على الرغم من تكلفتها الباهظة، لن تسفر سوى عن نحو مليار متر مكعب من المياه بعد خمس سنوات من الآن.
عاشراً: كانت السيدة سهلورق زودي رئيسة إثيوبيا، أكثر ذكاءً من الجميع حينما صرحت على الفور، بأن رسالة الرئيس السيسي من قناة السويس (مياه النيل خط أحمر، ومن يريد أن يجرب فليجرب) هذه الرسالة ليست موجهة إلى إثيوبيا، وإنما موجهة إلى الشعب المصري، (بغرض امتصاص غضبه من الحوادث والإخفاقات المتتالية)، ثم جاء تصريح الخارجية الأمريكية مباشرة، يدعو أطراف النزاع إلى عدم التصرف بشكل منفرد، ليضع بذلك حداً لأي إجراء عسكري مصري تجاه السد، وهو أبداً لا يعني إثيوبيا التي استمرت في غيها، وأعلنت على الفور أن عملية التخزين الثانية في موعدها، وأن العمل يسير على قدم وساق نحو هذا الهدف.
المصدر: الجزيرة