العالم - العراق
في الأيام الأربعة الماضية تجسدت هذه الحرب النفسية في أوضح صورها، عندما صرح مسؤول في وزارة الدفاع الامريكية (البنتاغون) بأن ابو بكر البغدادي، زعيم تنظيم “داعش” “هرب من الموصل تاركا قيادة معركة الدفاع عنها بيد قادة محليين”، واكد “ان التنظيم خسر 65 بالمئة من الأراضي التي كان يسيطر عليها”.
محطة تلفزيونية عراقية ذهبت الى ما هو ابعد من ذلك عندما قالت ان البغدادي ظهر في منطقة البوكمال على الحدود العراقية السورية المشتركة، وبدا نحيلا وغير قادر على الكلام بصورة طبيعية لمعاناته من إصابات تعرض لها سابقا.
الأخطر من ذلك قولها، أي المحطة، انه جمع بعض أنصاره من شيوخ القبائل والعشائر، وخطب فيهم، واقر بهزيمة التنظيم في المعارك الأخيرة، ووجه دعوة الى أنصاره بالتخفي والفرار الى مناطق جبلية، متهما الأنصار (أي اهل الموصل) بخذل المجاهدين (أي العرب والمسلحين الذيم قدموا الى المدينة، واستقروا فيها بعد السيطرة عليها، وإعلان قيام دولة الخلافة من وفوق منبر الجامع النوري الكبير في وسطها.
فإذا كانت وزارة الدفاع الامريكية تعرف مكان البغدادي فعلا، وترصد تحركاته، فلماذا لم تقتله، وهي التي تزدحم اجواء شمال العراق وكل سوريا بمئات من طائراتها وحلفائها، بطيار او بدونه، من كافة الأنواع الاحجام؟.
سؤال آخر لا يمكن تجنب طرحه، وهو هل يعقل ان يعترف البغدادي، اتفقنا معه او اختلفنا، ونحن نختلف معه، بالهزيمة ويهرب من ميدان المعركة، ويطالب أنصاره بالتخفي والفرار، ويتهم “الأنصار” من اهل الموصل بخذلانه ومقاتليه؟ وما زالت المعركة في ذروتها؟.
ابو بكر البغدادي ليس خبيرا في الشؤون العسكرية، ولا يحمل أي رتبة، ولم يتخرج من أي اكاديمية امنية او عسكرية، ومعظم القادة الميدانيين الذين يخوضون الحرب تحت راية “داعش” في الموصل، او مدن عراقية او سورية أخرى، هم من الجنرالات المحترفين الذين كانوا من قيادات الحرس الجمهوري والجيش العراقي في زمن نظام الطاغية صدام حسين، وهي القيادات التي حل الحاكم العسكري الأمريكي بول بريمر مؤسساتها العسكرية، واعتقل اعدادا كبيرة منها، ثم القذف بهم، بشكل مهين، الى الشارع بدون رواتب او معاشات تقاعدية ...
المتحدثون الامريكيون تحدثوا اكثر من مرة عن مقتل البغدادي، وسربوا قصصا عديدة الى صحف ومحطات تلفزة تؤكد وفاته طوال السنوات الثلاث الماضية، ليتبين عدم دقة هذه التسريبات، وان الرجل يبدو انه مثل القطط بسبعة أرواح، مثلما يقول المثل الشعبي العراقي.
اللواء الركن معن السعدي قائد عمليات القوات الخاصة العراقية في الموصل قدم مثلا في الموضوعية، عندما قال يوم امس ان قوات “داعش” دافعت بشراسة لمنع سقوط المنطقة الشرقية من الموصل، واعترف بأن القتال للسيطرة على الجانب الغربي منها سيكون صعبا، وربما الاشرس، بسبب حاراتها الضيقة التي لا يمكن للمدرعات المرور فيها، وشراسة القتال دفاعا عنها.
ما نريد ان نقوله ان أساليب الحرب النفسية التي كانت سائدة قبل خمسين عاما لم تعد فاعلة اليوم، في ظل ثورة وسائل التواصل الاجتماعي، وانتشار المعلومة بسرعة غير عادية، مضافا الى ذلك ان المتلقي بات اكثر ذكاء ودراية وتعليما، او معظمه على الاقل.
تنظيم “داعش” يواجه ظروفا صعبة، واعداء من ستين دولة مدججين بأحدث الأسلحة والطائرات والدبابات والعتاد العسكري المتطور، يشاركون في الهجوم الحالي للقضاء عليه، واستعادة الموصل من بين براثنه، وهزيمته ليست مستبعدة، بل ربما مؤكدة، وخسر فعلا 30 بالمئة من الموصل او 17 حيا من أربعين حيا هي مجموع احياء المدينة، ولكن من الواضح ان الحديث عن الهروب والاعتراف بالهزيمة سابق لاوانه، وان عناصره قد تقاتل حتى الموت، في ظل الحصار المفروض عليها، ويحول دون انتقالها الى الرقة عاصمة التنظيم، وانعدام وجود أي خيارات أخرى.
ربما تبدو خسارة تنظيم “داعش” معركة الموصل وشيكة، وربما الرقة أيضا، مثلما خسر الفلوجة وتكريت والباب وجرابلس والرمادي، وتدمر من قبلهما، ولكن المعركة الحقيقية لاعدائه، وما اكثرهم، هي عما اذا كانوا يملكون خطة واضحة حول كيفية إدارة هذه المناطق، والتعاطي مع سكانها بعد هزيمة التنظيم الارهابي .
اصدار البعض احكاما بنهاية التنظيم الوشيكة، ربما خطوة متسرعة، لان الجانب العسكري للتنظيم، هو احد اركان قوته ومخططاته، وليس كلها، ويظل الجانب العقائدي، والبيئات الحاضنة، ومصادر التمويل، او ما تبقى منها، لا تقل أهمية وخطورة، ولذلك نعتقد انه من المبكر جدا إقامة سرادق الاحتفال، واسدال الستار على فصل النهاية لهذا التنظيم الدموي.
المصدر : راي اليوم
109-4