عودة شارلي شابلن إلى السياسة

عودة شارلي شابلن إلى السياسة
الإثنين ٢٣ مايو ٢٠١٦ - ٠٦:٣٥ بتوقيت غرينتش

البحث عن شارلي شابلن ينبغي أن يكون حلماً سياسياً. «الأزمنة الحديثة» فيلم عبقري لمرحلة تجلّت في إرهاصات العولمة: مرحلة اجتياحات الرأسمالية الكوكبية وانكشاف قيمها الطاغية والفتاكة... لا بديل عن العولمة إلا الأسوأ منها: الديكتاتورية الشاملة.

يصعب تصديق الوجه الحقيقي للعولمة. في سجلها المعلن حريات فائضة، فردية شاملة، ديموقراطية ممسوكة، سلطات مأمورة، قوانين وفق الطلب، نظام أسواق طاحن، تجارة بلا حدود، إثراء فاجر وإفقار فادح، عسكر ومال، دين ومال، رجال ومال، والبقية من الكوارث تتوالى: الإنسان أبخس من العملة. الدولار «واحد أحد»، ولا أحد سواه.

لكل عبارة أعلاه وقائع دامغة: الديموقراطيات الغربية العريقة، السلطات المنبثقة عن الانتخابات، رجال الحكم المنتخبون، ديكور مناسب لسلطات مالية غير منتخبة ذات سلطات واسعة، في مركز القرار ووسائل الإعلام وقوى الضغط. رؤساء البنوك المركزية ومجالس إدارات المصارف يتربّعون على رأس السلطة. السلطات السياسية مأمورة لا آمرة. اختصرها في لبنان رئيس جمعية تجار بيروت نقولا شماس: «نحن نُطاع ولا نطيع». الأمرة للمال والسخرة للأقوال.

رأى شابلن مصير الإنسانية مع سطوة الآلة وتفوُّقها. عثر في فيلمه المثير «الأزمنة الحديثة» على الطريقة التي سيتم فيها تحويل الإنسان، وتغيير طبيعته، بحيث لا يعود آدمياً بإحساس وقيم وأحلام وحياة. الآلة أعادت تصنيع الإنسان ليصير مجرد «برغي» في آلة الإنتاج التراكمي الساحقة.

أكثر من ذلك، اكتشف أن الفاشية بصبغتها النازية ستكون الابن الشرعي للتوحش الرأسمالي. وها هو اليمين المتطرف يتقدم في أوروبا، من رحم العولمة. والبديل عن العولمة السيئة، أنظمة أسوأ.

خلقت العولمة «مركزاً» نشطاً تتولاه القوى المافوق رأسمالية، تتكدَّس فيه الأرباح بأرقام مليارية جنونية، ورواتب مليونية معلنة.

العولمة ألغت مركزية «المركز» الأوروبي والغربي، ووسعت جغرافية الأطراف. لم تعد الأطراف دول وشعوب العالم الثالث المتهم بالتخلف. تلك الأطراف عوملت من قبل النظام الرأسمالي في صعوده إلى السلطة، على أنها مناجم ومصادر مواد أولية وأسواق، مقابل فتاتٍ من المساعدات، سماها الرئيس الأميركي ليندون جونسون «استثمارات» يعود عائدها إلى صناديق الرأسمالية العالمية.

مع العولمة، لم تعد «الأطراف» عالم ثالثية. أكثرية دول الغرب كبُرت واتسعت فيها الأطراف والهوامش في داخلها. باتت الطبقة الوسطى بلا أفق. خائفة من غدها. تعيش كفاف شهرها، مهددة بالبطالة، متخوّفة من فقدان الضمانات الاجتماعية والصحية، بعد انفلاش موجة الخصخصة وتجرُّئها على مكتسبات مزمنة. مع العولمة، ذابت الأحزاب الاشتراكية باليمين والوسط. لا تختلف سياساتها الاقتصادية عن سياسات اليمين النيوليبرالي. مشروع قانون العمل الجديد في فرنسا، برهان على التخلي عن ضمانات استمرارية العمل... يترافق ذلك مع «عقيدة» يمينية ترى أن من أسباب الأزمة والبؤس المتنامي، موجات الهجرة وحضور الغرباء، كمحاولة لتبرئة النظام السياسي من آثار السياسات الاقتصادية الاجتياحية.

تجرّأت العولمة، بقيادتها الرأسمالية، على التراتبية المعروفة في الديموقراطية. لم تعد أداة ضغط لا تُرد، فوق السلطة السياسية المنتحبة. صارت هي السلطة السياسية. اليسار، يسار «سيغار وكافيار» غير محتشم... الآن، وقد سقط اليسار، ضحية طوعية في نظام العولمة، فإنه بات عاجزاً عن التعبير والتبشير بالقضايا الاجتماعية والعدالة ورسوخ الضمانات. لقد ورث اليمين المتطرف ضحايا العولمة الاجتياحية واليسار المتواطئ، وها هو يتقدم، بكل ما لديه من عقائد عنصرية، وبكل ما وقع بين يديه من ضحايا نظام العولمة.

من العولمة يخرج نظام أسوأ منه. اليمين المتطرف.

في فرنسا «الاشتراكية» مشكلة رواتب مدراء وأعضاء مجالس إدارة الشركات العملاقة. يبلغ الراتب حوالي 240 ضعف الحد الأدنى للأجور، أي ما يقارب أربعة ملايين ومئتي ألف يورو. لا تجرؤ حكومة «اليسار» المس بهذه الرواتب الخيالية. تمتنع عن إصدار قانون لا يسمح برواتب هؤلاء، أن تتجاوز 100 مرة الحد الأدنى، أي ما يقارب مليوناً وخمسة وسبعين ألف يورو. وهو مبلغ فاحش أيضاً ومعيب كذلك، في ظل سلطة «اشتراكية» اسماً، و «يسارية» بالشبهة... هذه سلطة في نظام رأسمالي نيوليبرالي ويميني فعلاً. حتى فرنسوا ميتران تراجع عن يساريته. تاتشر هزمته في إطلاقها عجلة العولمة النيوليبرالية المتوحشة.

مارين لوين سترث اليسار في فرنسا. خطابها، اجتماعياً، خطاب يساري. وعقيدتها، عنصرية فاشية. شارلي شابلن رأى ذلك قبل حدوثه. الرأسمالية المتوحشة أنتجت بؤساً إنسانياً وتوحشاً سياسياً، تمثل بالديكتاتورية الفاشية في أوروبا، والأنظمة العسكريتارية في الأطراف التابعة للمركز.

غداً، سيرث اليمين المتطرف أحزاب اليمين والوسط و «الخضر» في النمسا. «الفوهرر» نوربرت هوفر، سيتولى المستشارية، بعملية ديموقراطية.

دونالد ترامب، القادم من مركب مالي، عنصري، عسكري، الممثل لشرائح واسعة من الشعب الأميركي، قد يرث السلطة، ويزيل القشرة التي تخبّئ عيوب نظام العولمة أخلاقياً وسياسياً... دول أخرى مهدّدة بأقصى اليمين في كل مكان.

لا أبشع ولا أفدح مما آلت إليه هذه العولمة الاجتياحية. إنها تعيد إنتاج الحالة الذئبية التي تحدّث عنها هوبز في «ليفياتان».

لا يلزم عن ذلك، أن نفسّر حروبَنا العربية والدينية كنتاج وحيد لنظام العولمة. ربما كان ذلك ممكناً لولا تدخل «آلهة» أقوى من الدولار. لدينا آلهة مبرمة قادرة على الفتك بالجميع. هذا هو الخراب العظيم.

حبذا لو أن شابلن هنا. الفلسفة خذلتنا. الديانات خانتنا. لم يبقَ من أمل بغير الفن... لم يفُت الأوان بعد.

نصري الصايغ / السفير
109-4