ولهذا فإن الكلام عن الإمام أمير المؤمنين عليه السلام ليس بالأمر السهل على الاطلاق، لأننا لسنا أمام شخصية تاريخية احتلت مكانة مرموقة في المجتمع الإسلامي فحسب، حتى نقدم ضبطاً لمفردات هذه الشخصية وحركتها الاصلاحية من خلال التراث التاريخي المكتوب، كما نتعاطى مع أي مصلح وإمام في العالم، بل نحن أمام شخصية قدمها اللَّه تعالى كإنسان كامل، وفق خطوط رسمها القران الكريم وحددت معالمها مفاهيم الإسلام العظيم، ولذلك كانت حياة الإمام عليه السلام تجسيداً للإسلام، ولذا نحن حينما نقدم الإمام عليه السلام فنحن نقدم الإسلام بأبهى صورة وأدق تطبيق، فعلينا أن لا ننظر للإمام عليه السلام كشخص عاش في التاريخ، بل الإمام عليه السلام تجاوز زمانه ومكانه ليكون المحور الذي يصاغ على أساسه الحضارة الإسلامية.
إن شخصية الإمام علي عليه السلام مؤهلة لأن تكون القدوة لصنع واحياء الفرد المسلم وكذلك لنتعلم كيف يحيا المسلم، بناء على هذا إذا أردنا أن نتحدث عن أمير المؤمنين عليه السلام لا ينبغي أن يكون للتيمن والتبرك بذكره فقط، بل للتعلم منه والاستفادة من مشعل نوره لحل المشكلات ولإزالة العوائق.
وهو عليه السلام إبن عم الرسول الاكرم صلى الله عليه وآله و أول من لبّى دعوته وعتنق دينه، وصلّى معه، وأفضل الأمة مناقباً، وأجمعها سوابقاً، وأعلمها بالكتاب والسنة، وأكثرها إخلاصاً وعبادةً لله تعالى، وجهاداً في سبيل دينه، فلولا سيفه لما قام الدين، ولا انهدت صولة الكافرين، حيث قال رسول الله صلى الله عليه وآله مراراً وكراراً في ردع المنافقين والطلقاء من الأمة: "ما قام ولا إستقام ديني إلا بشيئين: مال خديجة وسيف عليّ بن أبي طالب عليهما السلام"..
هو أمام المتقين والصراط المستقيم وسيف العدالة السماوية وقسيم النار والجنة وقاتل صناديد الكفر والنفاق والشقاق ومؤدب الطلقاء وأب الايتام وكافل الارامل وأعلم الصحابة بأسباب نزول القرآن، ومعرفة تأويله وأخي رسول الله (ص) حيث قال: "أنت أخي في الدنيا والآخرة"، وقال: من أحب عليا فقد أحبني، ومن أحبني فقد أحب الله ومن أبغض عليا فقد أبغضني، ومن أبغضني فقد أبغض الله ومن أبغض الله كفر. كما قال خاتم المرسلين (ص) مخاطباً علي (ع): أنت مني وأنا منك وكان يقول له ايضاً: لا يحبك إلا مؤمن، ولا يبغضك إلا منافق.
ليس ثَمّة مَن يجهل علي بن أبي طالب عليه السلام: مولى المتّقين، وأمير المؤمنين، ووارث علم النبيّين، وخليفة رسول ربّ العالمين، منبع الفضائل، ومنتهى المكارم، والقمّة الشامخة السامية التي ينحدر عنها السيل ولا يرقى إليها الطير وصرح العدالة الانسانية الخالد. فأنّى للقلم أنْ يكتب في صفاته، وماذا عساه يسطّر في بيان كمالاته، وقد حارت العقول والأفهام أمام شموخ فضائله التي ملأتْ الخافقَين، ومكارم أخلاقه التي وسعتْ الكونَين. وشهد بفضله وعلوّ مقامه العدوّ قبل الصديق؛ لأنّ النور دائماً أقوى من الظلام، ووهج الحقيقة يأبى أنْ يكتمه تراكم الدخان؛ لذا سطع نور عليٍّ عالياً يُضيء دربَ البشريّة ويمدّها بمنهاج الرسالة المحمّديّة الخالدة، وتسابقتْ الأقلام لتتشرّف في تخليد هذه الشخصيّة العظيمة وتبجيلها. وحيث إنّ فضائل علي عليه السلام، عظيمة شهيرة تناولتْها كتب الفريقَين؛ لذا لا نجد حاجة لسرد كلماتهم هنا .. ، بل نتناول باختصار نفحات من سيرته الشريفة.
ولد عليه السلام بمكة في البيت الحرام يوم الجمعة الثالث عشر من شهر الله الأصم رجب بعد عام الفيل بثلاثين سنة ولم يولد في البيت الحرام سواه قبله ولا بعده، وهي فضيلة خصه الله بها إجلالاً له واعلاءً لرتبته وإظهاراً لتكرمته. وكان عليه السلام هاشمياً من هاشميين، وأول من ولده هاشم مرتين (أي من قبل الأب والأم)، فمن جهة الأب فهو علي بن أبي طالب بن عبدالمطلب بن هاشم بن عبد مناف، ومن قبل الأم فهي فاطمة بنت أسد بنت هاشم بن عبد مناف، وهي بنت عمّ أبي طالب، كانت من المهاجرات وهي أوّل هاشميّة ولدتْ هاشميّاً، قد أسلمتْ وهاجرت، وكانت بمحلٍّ عظيم من الأعيان في عهد رسول الله صلّى الله عليه وآله ، وتُوفِّيت في حياة رسول الله صلّى الله عليه وآله ، وصلّى عليها .
عن أنس بن مالك قال: لما ماتت فاطمة بنت أسد بن هاشم، أُمّ علي، دخل عليها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فجلس عند رأسها، فقال: رحمك الله يا أُمّي، كنتِ أُمّي بعد أُمّي، تجوعين وتُشبعيني، وتَعْرَيْن وتكسيني، وتمنعين نفسَك طيّباً وتطعميني، تُرِيْدِيْنَ بذلك وجْهَ الله والدار الآخرة.. .
ونشأ الامام في حجر رسول الله (ص) منذ تعومة اظافره وتغذی من معين هديه فکان المتعلم الوفي والاخ الرکي واول من آمن وصلی واصدق من تفانی في سبيل ربه وضحی في سبيل انجاح رسالته في احرج لحظات صراعها مع الجاهلية العاتية في کل صورها في العهدين المکَي والمدني وفي حياة الرسول (ص) وبعد رحلته ذائبا في مبدئه ورسالته وجميع قيمه مجسدا للحق بکل شُعبه من دون ان يتخطاها قيد أنملة وان ينحرف عنها قيد شعرة. ولازم رسول الله صلی الله عليه واله وسلم فتی يافعا في غدوه ورواحه وسلمه وحربه حتی تخلق باخلاقه واتسم بصفاته وفقه عنه الدين وتفقه ما نزل به الروح الامين فکان من افقه اصحابه واقضاهم واحفظهم وادعاهم وادقهم في الفتيا واقربهم الی الصواب حتی قال فيه الخليفة الثاني عمر الخطاب: لابقيت لمعضلة ليس لها ابو الحسن.
نعم ..لقد آزر الإمام عليه السلام رسول الله منذ بداية الدعوة وجاهد معه جهادا لاميثل له في تاريخ الدعوة المبارکة حيت تفری الليل عن صبحه واسفر الحق عن محضه ونطق زعيم الدين وخرست شقاشق الشياطين بعد ان مُني بذؤبان العرب ومردة اهل الکتاب. -من خطبة الزهزاء عليها السلام أمام ابي بکر وعمر وسائر المهاجرين والانصار بعيد رحيل رسول الله (ص)- .
وعلى هذا تنقسم حياة الامام علي بن ابي طالب (ع) الى شطرين رئيسين، الشطر الاول:حياته منذ ولادته حتى رحيل سيد المرسلين (ص). والشطر الثاني: حياته من حين رحيل الرسول الاكرم (ص) وتولّيه لمهام الإمامة الشرعية وحتى استشهاده عليه السلام في محراب العبادة.
ونظرا لتنوع الادوار والظروف التي عاشها عليه السلام يمكننا ان نصنف حياته الى عدة مراحل:
المرحلة الاولى: من الولادة الى البعثة النبوية المباركة.
المرحلة الثانية: من البعثة الى الهجرة.
المرحلة الثالثة: من الهجرة الى رحيل النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
وهذه المراحل الثلاث تدخل في الشطر الاول من حياته وقد تجلى فيه انقياده المطلق للرسول (ص) والدفاع المستميت عن الرسالة والرسول (ص).
المرحلة الرابعة: حياة الامام في عهد (ابي بكر وعمر وعثمان).
المرحلة الخامسة: حياته في عهد دولته.
ولمزيد من المعلومات يمكن للقاريء الكريم مراجعة كتب السيرة للوقوف على تفاصيل هذه المراحل السابقة الذكر.
لقد كان علي بن أبي طالب عليه السلام، هو ذلك البديل الذي اعده رسول الله صلى الله عليه وآله اعدادا رساليا خاصا ليحمّله المرجعية الفكرية والسياسية من بعده، كي يواصل عملية التغيير الطويلة الرائدة بمساندة القاعدة الواعية اليت اعدّها الرسول الأكرم (ص) له من المهاجرين والانصار. ولكن الجاهلية المتجذرة في اعماق ذلك المجتمع ما كانت لتندحر في "بدر" و "حنين" وخلال عقد واحد من الصراع والجهاد، وكان من الطبيعي ان تظهر من جديد متسترة بشعار اسلامي كي تستطيع ان تظهر على المسرح الاجتماعي من جديد ولو بعد عقود من الزمن، وكان من الطبيعي ايضا ان تتسلل الى المواقع القيادية بشكل مباشر او غير مباشر..
لقد اصطدم التخطيط الرائد بواقع كان متوقعا للنبي صلى الله عليه وآله، وبتيار جارف يعود الى نقصان الوعي عند الامة التي تشكل القاعدة الامينة لحماية القيادةا الرشيدة بحيث لم يكن يدرك عامة المسلمين بعمق ان الجاهلية تتآمر وراء الستار عليهم وعلى الثورة الاسلامية الفتية، وان القضية ليست قضية تغيير شخص القائد بقائد آخر، وانما قضية تغيير خط الاسلام المحمدي الثوري بخط جاهلي متستر بالاسلام. وهكذا اجهضت السقيقة التخطيط الرائد للنبي (ص) حينما وجدت ان الساحة قد خلت منه وتحققت نبوءة القرآن الكريم حين قال (وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفان مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم) آل عمران:144.
ولكي نفهم موقف الإمام من هذا العهد علينا أن نفهم موقفه من السقيفة وقد وردت نصوص كثيرة في نهج البلاغة وغيره تحدد هذا الموقف نأخذ منها النص التالي: وحين سأله بعض أصحابه كيف دفعكم قومكم عن هذا المقام وأنتم أحق به؟! قال عليه السلام:... أما الاستبداد علينا بهذا المقام ونحن الأعلون نسباً والأشدّون برسول اللَّه صلى الله عليه وآله نوطاً، فإنها كانت أثرةً شحّت عليها نفوس قوم وسخت عنها نفوس اخرين والحكم للَّه والموعد القيامة..
إنّ هذا الإمام الملهم العظيم أوّل مظلوم في دنيا الإسلام ، فقد طافت به المحن والأزمات يتبع بعضها بعضا بعد وفاة أخيه وابن عمّه الرسول صلىاللهعليه وآله وسلم، وراحت القوى الحاقدة عليه تهتف بقوى محمومة:" لا تجتمع النبوّة والخلافة في بيت واحد". واُقصي الإمام عن الخلافة وقيادة الامّة، وقبع في أرباض بيته يسامر الهموم ويبارح الأحزان ويصعّد آهات آلامه، فقد عامله القوم كمواطن عادي، والغيت في حقّه جميع وصايا الرسول.
ولمّا آلت إليه الخلافة بعد مقتل عثمان عميد الاسرة الأموية، قامت قيامة القرشيّين وورمت آنافهم، فقد خافوا على مصالحهم وعلى امتيازاتهم وما نهبوه من الثراء العريض في أيام حكومة عثمان، فجنّدوا جميع ما يملكونه من طاقات مادية وسياسية للاطاحة بحكومته. لقد أبغضوه ونقموا عليه لأنّه لم يتجاوب مع مصالحهم، لقد أخلص للحقّ وجهد في إقامة العدل، وتبنّى قضايا المحرومين والبائسين، وآثر رضا الله تعالى على كلّ شيء.
إنّ القوى الحاقدة على الإمام كانت على يقين لا يخامره شكّ أنّ الإمام لا يقيم أي وزن لمصالحهم ورغباتهم التي هي أبعد ما تكون عن منهج الإسلام ومصلحة المسلمين، فقد صحبوه طفلا وشابا وكهلا، وعرفوا شدّة وطأته وتنمّره في ذات الله تعالى، وشاهدوا ضرباته القاصمة في فجر الدعوة الإسلامية حينما حصد رءوس أعلامهم، وما أشاعه في بيوتهم من الثكل والحزن والحداد. فإذا هم خصومه وأعداؤه قبل أن يكون خليفة ، وبعد أن صار حاكما وخليفة عليهم.
وشاء الله تعالی ان يجعل شهادته في بيت من بيوته المبارکة فکانت بداية حياته في بيت الله الحرام ونهايتها في مسجد الکوفة الشريف .. وحري بکل صاحب فکر ومروءة ان يقف متاملا هذه الرحلة ... ويدرس حقيقة شخصية هذا الامام الهمام بعيدا عن التعصب الاعمی.
ولقد وصفه ضرار بن ضمرة الکناني لمعاوية بن آبي سفيان بقوله: (کان والله بعيد المدی شديد القوی يقول فصلا ويحکم عدلا، يتفجر العلم من جوانبه وتنطق الحکمة من نواحيه، ويستوحش من الدنيا وزهراتها، ويستأنس بالليل ووحشته، وکان طويل الفکرة يقلب کفه ويخاطب نفسه، يعجبه من اللباس ماقصر ومن الطعام ما جشب، وکان فينا کأحدنا، يدنينا إذا أتيناه ويجيبنا اذا سألناه ويأتينا إذا دعوناه وينبئنا اذا استنبأناه، ونحن والله مع تقريبه ايانا وقره منا لانکاد نکلمه هيبة له، فإن ابتسم فعن مثل اللؤلؤ المنظوم، يعظم اهل الدين ويقرَب المساکين لايطع القوي في باطله ولاييأس الضعيف في عدله) - الاستيعاب- .
لقد عاصر الامام علي بن ابي طالب عليه السلام حركة الوحي الرسالي منذ بدايتها حتى انقطاع الوحي برحيل رسول الله صلى الله عليه وآله، وكانت له مواقفه المشرّقة والتي يُغبط عليها في دفاعه عن الرسول والرسالة طيلة ثلاثة وعشرين عاما من الجهاد المتواصل والدفاع المستميت عن حريم الاسلام الحنيف، وقد انعكست مواقفه وانجازانه وفضائله القرآنية في آيات الذكر الحكيم ونصوص الحديث والنبوي الشريف.
قال ابن عباس: قد نزلت ثلاثمائة آية في علي (ع) ومانزلت (يا ايها الذين آمنو) الا وعلي اميرها وشريفها. وقد عاتب الله تعالى اصحاب محمّد في آية من القرآن وما ذكر عليا الا بخير. ينابيع المودة 126. ولكثرة ما نزل في علي عليه السلام من الآيات المباركة، خصص جمع من المتقدمين والمتأخرين كتبا جمعت ما نزل فيه عليه السلام.
فسلام عليك يا أمير المؤمنين وقائد الغر المحجلين يوم ولدت ويوم رُبيت في حجر الرسالة ويوم جاهدت من اجل ان تعلو راية الإسلام خفاقة ويوم صبرت ونصحت ويوم بويعت وحکمت ويوم کشفت النقاب عن براثن الجاهلية المتسترة بشعار الإسلام ويوم استشهدت وان تروَي بدمك الطاهر شجرة الاسلام الباسقة ويوم تبعث حيا وان تحمل وسام الفوز من اعلی عليين.
213