ولذلك نادرا ما تكون القضايا السياسية خصوصا في مجال العلاقات الدولية عاملا مؤثرا في الانتخابات البرلمانية. وما يهم هؤلاء المواطنين شؤونهم الحياتية التي يقررون على ضوئها مواقفهم ازاءها لهذا المرشح او ذاك. ولذلك فالنقاش هنا يتعلق بالصنفين الاولين من الغرب: عالم السياسة وعالم المنظمات المدنية (غير الحكومية). وقد استطاع هذا الغرب من خلال رسم خطوط فاصلة بين هذين العالمين ابقاء شعوب العالم الاخرى، خصوصا العربية والاسلامية، مشدودة اليه. ففيما يتواصل الحكام المستبدون بشكل لا ينقطع مع حكومات الدول الغربية، يتواصل ضحايا ذلك الاستبداد مع منظمات المجتمع المدني بشكل متين. فما دوافع هذا التواصل؟ وما الفلسفة التي يتأسس عليها؟ وكيف استطاع الغربيون هندسة ديمقراطيتهم بهذه الشمولية ليصبح قادرا على ان يكون مقصدا للحاكم وضحاياه. هذا النظام الذي يدعم اشد الانظمة استبدادا وظلما بالخبرات الامنية وأحدث الاسلحة واجهزة القمع وأحدث وسائل التعذيب، هو نفسه الذي يمنح اللجوء لضحايا تلك الانظمة.
ماذا تعني الديمقراطية وفق هذه المعطيات؟ فهل هذه الديمقراطية تتضمن نقيضها في الوقت نفسه؟ هل من سمات هذه الديمقراطية ظاهرة النفاق السياسي الذي تظهر تجلياته في اللقاءات الرسمية بين الحكام المنتخبين «ديمقراطيا» واولئك الجاثمين على صدور الشعوب ضد ارادتها؟ كيف استطاع الغرب الذي خاض اشرس الحروب التي شهدتها الانسانية، ان يسوق نفسه كمصدر للشرعية الدولية بما لديه من «ديمقراطية» و«حكم القانون» و«دولة المؤسسات» في الوقت الذي يدعم فيه أعرق الديكتاتوريات في العالم؟ هذا النظام الذي يجرم غسيل الاموال ويعيد تنظيم نظامه المصرفي وفق مستلزمات مكافحة ذلك الغسيل، كيف يستقبل المليارات النفطية بدون ان يسأل اصحابها: من أين لكم هذا؟ ما هو غسيل الاموال؟ وما هو المال المشروع والمال السحت؟ أليست هذه الامثلة كافية لاعادة قراءة قاموس المصطلحات الغربية لاستيضاح مدى وضوح ما فيه وما اذا كانت منسجمة مع المنطق والمعايير والمصاديق؟ عندما اطلقت وزيرة الخارجية السويدية تصريحاتها الناقدة لسياسات احدى الدول العربية، سارعت الدول الاخرى المتحالفة مع السعودية للاحتجاج على تلك التصريحات، بينما لاذ الغرب كله بالصمت، ولم يبد زعماء «العالم الحر» دعما واضحا لموقف تلك الوزيرة خشية ان يؤدي ذلك لتداعيات سياسية غير محسوبة من قبل اصحاب المال النفطي الهائل.
عالم السياسة الغربي له اخلاقه المؤسسة في جوهرها على «المصلحة» وليس على المبادىء او الاخلاق او القيم. فهو عالم يمارس رموزه دورهم وفق الميكافيلية التي لا تقف عند حد للوصول الى الاهداف والغايات. فالحرب ابسط الامور لدى هذا العالم، وكذلك العمل الاستخباراتي غير المحدود والتصفية السياسية والاغتيال اذا اقتضى الامر حتى لو كان ذلك متناقضا مع القوانين الدولية ومواقف الامم المتحدة.
ولا يتردد هؤلاء في استخدام القوة ضد من يعتبرونهم «اعداء» ولو ادى ذلك لقتل عشرات الآلاف من الابرياء. ويبرر ذلك بانه من ضرورات الحرب. وبرغم ما طرحه القس المسيحي، توماس اكويناس (توما الاكويني) في القرن الثالث عشر الميلادي حول «الحرب العادلة» فان القليل من قادة الغرب من يلتزم بتلك المعايير. العالم السياسي الغربي مستعد للتعامل مع الشيطان لتحقيق «المصلحة»، والتخلي عن ابسط المبادىء من اجل ذلك. واذا كانت الحرب العالمية الثانية قد فرضت على الغرب ثقافة جديدة اسست لقيم حقوق الانسان ومواثيق جنيف التي تنظم الحرب، وساهمت في تأسيس الامم المتحدة كمرجعية دولية في قضايا الحرب والسلام، فقد تراجعت السياسات الغربية تدريجيا عن كل ذلك، واصبحت الحروب تشن بدون شرعية دولية، وآخرها الحرب على العراق في 2003.
كما اتخذ الغربيون سياسة ثابتة بدعم الكيان الاسرائيلي مغايرة لمواقف الامم المتحدة التي تم تدجينها تدريجيا او تهميشها. فالامين العام للامم المتحدة يكرر دعوته لوقف الحرب على اليمن، ولكن الساسة الغربيين صامتون ازاء ذلك. وحتى في مجال حقوق الانسان، تسعى الحكومات للتنصل منها بمنطق يبدو «قانونيا» ويدعم بحملات اعلامية تخلط الغث بالسمين. فرئيس الوزراء البريطاني خاض الانتخابات وهو يرفع شعار الخروج من اطار منظومة حقوق الانسان الاوروبية وعدم الالتزام بقرارات المحكمة الاوروبية الخاصة بها. بل ان الولايات المتحدة نفسها ما تزال ترفض الانضمام الى المحكمة الجنائية الدولية. ولم يصادق الكونغرس على منع التعذيب الا هذا الشهر.
في مقابل ذلك هناك المجتمع المدني ومؤسساته، وهو عالم ناشط على نطاق واسع، قادر على استقطاب ضحايا الانظمة السياسية في العالم. ولكن غياب فاعليته على الصعيد العملي يجعله في نظر الكثيرين مساهما في «التخدير» و«الاستدراج نحو اللافعل» والغاء ارادة التغيير لدى الشعوب. هذا العالم يمارس دوره بفاعلية. ففي المجال الحقوقي تتبنى المنظمات الغربية الكبرى مثل العفو الدولية وهيومن رايتس ووتش والفيدرالية الدولية لحقوق الانسان وعشرات المنظمات الاخرى ادوارا مهمة في كشف انتهاكات حقوق الانسان في العالم. فتصدر التقارير بشكل منتظم، وتتبنى ضحايا الانتهاكات، وتعقد الندوات والمؤتمرات، وتشارك بفاعلية في دورات مجلس حقوق الانسان. غير انه لم يسجل قط ان استطاع هذا العالم احداث تغيير حقيقي في اي من البلدان التي تنتهك حقوق مواطنيها.
والسبب ان هناك «تفاهما» غير معلن بين العالم السياسي والعالم الحقوقي بان يمارس كل منهما دوره بحرية تامة وبدون ان يلزم احدهما الآخر بتبني مواقفه. فمثلا قدم رئيس الوزراء البريطاني الاسبوع الماضي دعوة لرئيس الانقلاب العسكري المصري، عبد الفتاح السيسي لزيارة بريطانيا، في خطوة اعتبرها العالم الحقوقي غير مناسبة لأنها بمثابة مكافأة السيسي لانقلابه على الرئيس المنتخب. ولكن لم يعدم رئيس الوزراء الداعمين لتلك الخطوة. فكتبت صحيفة «التايمز»، يوم الجمعة الماضية افتتاحية قالت فيها: ان من المناسب جدا دعوة الحكومة البريطانية عبد الفتاح السيسي، الحاكم العسكري لمصر، لزيارة داوننج ستريت برغم قوانينه القمعية الصارمة والقمع الشديد. وقالت ان على المعارضين ان يفهموا ان «السيسي يمسك بالسلطة، اما هم فليسوا كذلك». وما اكثر استقبالات الحكومة البريطانية حاكم البحرين برغم الضجيج الذي ترفعه المنظمات الحقوقية وبعض وسائل الاعلام. ولا يؤدي هذا التعارض في المواقف الى اختلاف جوهري بين العالمين: عالم السياسة ومنظمات المجتمع المدني. فكأن الحكومات تقول: «نحن نعمل ما نشاء، وانتم تقولون ما تشاؤون». فالسلطة السياسية هي التي تملك القدرة على اتخاذ قرارات عملية كدعم الانظمة بالاسلحة او الخبرات الامنية او الدعم السياسي في المؤسسات الدولية، بينما تنحصر قدرات المنظمات المدنية باصدار التقارير غير الملزمة لاحد، وعادة تطرح «توصيات» يندر ان تجد طريقها للتنفيذ. النظام الغربي بذلك يسعى لاحتواء كل من الحكومة والمعارضة في البلدان الاخرى.
من هذا تتضح حقائق منها ما يلي: اولها ان هناك توافقا على توزيع المهمات في العالم الغربي بدون تضارب بين الاطراف. ثانيها: ان الجانب العملي والفعلي على صعيد العلاقات الدولية منوط بالحكومات التي تتصرف وفق سياسات احزابها الحاكمة وليس للشعوب دور حقيقي في توجيه السياسات الخارجية. ثالثها: ان منظمات المجتمع المدني تملك حرية الحركة كما تشاء باصدار التقارير وتوصيف اوضاع ضحايا القمع السلطوي، ولكنها بدون انياب، ولا تملك اتخاذ قرارات ملزمة. رابعها: ان هناك تكاملا بين كافة الاطراف الفاعلة في المجتمع الغربي، فالاعلام، برغم حريته، جزء من المنظومة، وكذلك المنظمات الحقوقية والمؤسسات المهنية والجهات الاقتصادية كالمصارف والشركات المتعددة الجنسية. خامسها: ان ما يبدو من ثنائية في مواقف الحكومات والمنظمات امر متفق عليه، فرئيس الحكومة لا يشعر بالحرج حين يلتقي بزعيم دولة قمعية ويناقش معه العلاقات والقضايا المشتركة بينما تصدر المنظمات الحقوقية بيانات تشجب ممارسات ذلك النظام، او تنظم تظاهرة احتجاجية خارج مكان اللقاء، فانتقاد سياسات الحكومة والسياسيين مسموح ضمن اطر محددة. سادسها: ان من الخطأ الكبير الاعتقاد بان المنظومة الديمقراطية ملتزمة بما تروجه للعالم حول نفسها، بل الحقيقة ان المنظومة اصبحت سلاحا بايدي الغرب، كما هي حقوق الانسان والحرية، ترفعها لمحاربة الانظمة التي تختلف معها سياسيا او ايديولوجيا. في الغرب هناك عوالم ثلاثة متداخلة ومتفاهمة في ما بينها، ومنسجمة في ما تطرح، وهذه العوالم تمثل بمجمل طرحها جوهر النظام السياسي والايديولوجي الغربي. هذا يعني انه يحمل تناقضات داخلية غير قليلة كثيرا ما هزته من داخله كما حدث في الازمة المالية قبل بضع سنوات، وكما يحدث في الوقت الحاضر من قلق امني متواصل نتيجة اعادة هندسة الارهاب ومسايرة انظمة الاحتلال والاستبداد.
*د.سعيد الشهابي