كل هذا مرتبط بنتائج الانتخابات النيابية. تأثير نتائج الانتخابات على السياسة الخارجية سيكون واضحاً. إما الاستمرار، لكن بقوة أكبر في سياسة التورط في القضايا الخارجية، ولا سيما في سوريا، وإما بداية العد العكسي لانتهاء المأزق التركي، والخروج إلى حد كبير من المستنقع السوري، أو كما بات يسميه البعض فيتنام المحتملة لأنقرة، ومن أزمات المنطقة.
وينطبق هذا التحول، إذا حصل، بقوة أيضاً على العلاقات التركية - المصرية.
ينتظر الرئيس رجب طيب أردوغان بفارغ الصبر، مساء الأحد السابع من حزيران، ليعلن انتصار «حزب العدالة والتنمية»، في أول انتخابات نيابية تخاض من دون زعامته الرسمية للحزب الحاكم، فيما الواقع أنه لا يزال الرئيس الفعلي له، اذ يتنقل في اليوم الواحد بين أكثر من ثلاثة أماكن مخاطباً حشوداً من هنا واحتفالاً هناك وتدشيناً لمنشأة هنالك.
يخوض أردوغان الانتخابات منتهكاً صلاحيات رئيس الجمهورية، بوجوب أن يكون على الحياد في الصراع السياسي الداخلي. السبب الرئيسي أن النتائج كما ستؤثر على التوازنات الداخلية، وتطلعه ليكون رئيساً أو «سلطاناً» مطلق الصلاحيات، ستؤثر أيضاً على اتجاهات السياسة الخارجية. وهو لا يريد أن ينهي حياته السياسية بإخفاق مدوّ.
العامل الحاسم هنا أن يفوز «حزب العدالة والتنمية» بثلثي أعضاء البرلمان (367 من أصل 550 مقعداً هم مجموع أعضاء البرلمان) لتعديل الدستور في البرلمان، أو 330 مقعداً على الأقل الضرورية لتحويل أي مشروع لتعديل الدستور إلى استفتاء. وخلا ذلك فإن الوضع سيستمر على ما هو عليه.
لكن في حال تمكن «حزب الشعوب الديموقراطي» الكردي من الفوز بنسبة عشرة في المئة أو أكثر، وفي الوقت نفسه فشل «حزب العدالة والتنمية» في الفوز بنسبة لا تقل عن 43 - 44 في المئة، فهذا يعني فشل الحزب في تحقيق حتى مقاعد تعادل النصف زائداً واحداً وهنا الكارثة الكبرى، إذ لن يتمكن حينها من التفرد في تشكيل الحكومة، وسيلجأ إما إلى الدعوة إلى انتخابات جديدة مبكرة، أو تشكيل حكومة ائتلافية مع حزب آخر. وكائناً من سيكون ذلك الحزب، في حال موافقته على الدخول في ائتلاف حكومي مع «العدالة والتنمية»، فإن السياسات الداخلية كما الخارجية لن تكون على ما هي عليه. فـ «حزب الشعب الجمهوري» لا تنسجم سياساته مع «حزب العدالة والتنمية» بشأن سوريا كما بشأن مصر. والحزب الكردي لن يكون شريكاً في ائتلاف مع «العدالة والتنمية» إلا وفق شروط عالية جداً لا يمكن للحزب الحاكم أن يقبل بها. الحزب الأكثر قرباً من المنطلقات الإيديولوجية لـ «العدالة والتنمية» هو «الحركة القومية». لكن هذا الحزب أيضاً يعارض بشدة سياسة أردوغان الشرق أوسطية، ويدعو إلى وقف التدخل التركي في شؤون الشرق الأوسط، وخصوصاً في سوريا، والتي لا تخدم برأيه سوى مشروع الشرق الأوسط الكبير للولايات المتحدة.
من هنا فإن تركيا أمام منعطف في اتجاه نظام «سلطاني» بالكامل، غير برلماني في حال فشل الحزب الكردي وفوز «العدالة والتنمية» بأكثر من 44 في المئة، وأمام منعطف مضاد في حال فشل «حزب العدالة والتنمية» في الانفراد بالسلطة. لكن أيضاً في حال حقق الحزب فوزاً بالأكثرية المطلقة، لكن بصورة خجولة لا تتعدى الثلاثمئة نائب، فإنها ستعني تراجع التأييد لسياسات الحزب، سواء في الداخل أو الخارج، وسيكون الاستمرار في السياسات نفسها مغامرة لا تحظى بقبول شعبي حتى داخل حزب العدالة والتنمية، من دون استبعاد أن يكون ذلك مدخلاً لاهتزازات وتصدعات داخل «العدالة والتنمية»، خصوصاً في ظل اعتراضات عبدالله غول الذي رفض المشاركة في مناسبة «فتح اسطنبول» التي يحييها أردوغان، برغم دعوته إليها، وفي ظل انتقادات بولنت أرينتش الذي يعتبر أن الحزب حقق التنمية لكن من دون عدالة، وفي ظل خروج قيادات كثيرة من العمل السياسي المباشر بذريعة نظام داخلي للحزب يمنع الترشح لولاية رابعة، الأمر الذي لا ينطبق على أردوغان الذي بات رئيساً للجمهورية، وعمل على تصفية كل منافسيه داخل الحزب. وبالتالي سنكون أمام نسخة جديدة من «حزب الوطن الأم» الذي بدأ عده العكسي فانحلاله بعد أن انتقل زعيمه طورغوت اوزال من رئاسته إلى رئاسة الجمهورية في العام 1989.
وهنا نفتح قوسين، لنقول إن التحالف التركي ـ السعودي ـ القطري في سوريا في سباق مع الوقت قبل الانتخابات، تحسباً للمفاجآت. ولذا شدد ضغطه في الداخل السوري، فكانت تطورات إدلب وجسر الشغور وتدمر.
إن فشل «العدالة والتنمية» في الانتخابات، أو تحقيق نتائج متواضعة، سيحدث ضغطاً على الحكومة لتغيير سياساتها السورية. لكن في حال تحقيق الحزب فوزاً كبيراً في حال سقوط «حزب الشعوب الديموقراطي» فإن التدخل التركي في سوريا سيزداد، مراهناً على تفويض شعبي جديد، ومستفيداً من دعم السعودية.
وهنا قد يقع أردوغان في وهم العظمة، معتقداً أن استمراره في السلطة بقوة سيخوله توسيع تدخله، خصوصاً في ظل ما يشاع عن اتفاق تركي - أميركي «مبدئي» لتقديم دعم جوي للمعارضة في سوريا. وهذا يعني، من دون أي لبس، أن طائرات تركية ستنطلق من تركيا، بطيار أو من دون طيار، وستحلق فوق الأراضي السورية في اختبار للشروع في إقامة منطقة عازلة، وما يعنيه ذلك من غرق إضافي في المستنقع السوري مباشر جداً، وعلني هذه المرة، وما سيحمله بالتأكيد وليس مجرد احتمال، من ردة فعل سـورية وإيرانية وروسية على هذا التطور، وتغيير طريقة تعامل هذا المحور مع أنقرة التي لن تفعل بهذه الخطوة سوى نقل المعركة العسكرية والعنفية إلى الداخل التركي، الذي لن ينأى هذه المرة، وفقاً لصحيفة «راديكال»، عن الخراب الحتمي الذي سيحمله التورط التركي في فيتنام جديدة.
وهذا ينقل الحديث إلى مصر، التي استعاد أردوغان خطابه الحاد ضد رئيسها عبد الفتاح السيسي، واصفاً إياه من جديد بالانقلابي، والذي كان يصلي وراء محمد مرسي قبل أن يغدر به ويخلعه من السلطة. وجدد قوله إنه لن يعترف أبداً بالسيسي رئيساً لمصر.
اللهجة الحادة المتجددة لأردوغان، والتي كررها كثيراً في مهرجاناته الانتخابية في تركيا، في الأيام والساعات الأخيرة، تعكس فشل مساعي الوساطة القطرية والسعودية مع أنقرة لكف يده عن التدخل في الشأن المصري والخليجي عموماً، وتعكس أن أردوغان لا يزال يراهن على مشروعه الخاص به وبحزبه، والذي لا يستثني أحداً من استهدافاته، وعلى رأسها السعودية التي يحمّلها مسؤولية إسقاط مشروعه في مصر، عبر الإطاحة بحكم «الإخوان المسلمين». وأردوغان هنا يلعب مع الرياض لعبة مزدوجة وخادعة، فهو يرحب بدعمها له في سوريا، لكنه يمتنع عن دعم السعودية في الحرب على اليمن، ويكتفي بإبداء الاستعداد لدعم استخباري ولوجستي لا يقدم ولا يؤخر في حرب تريد الرياض من هؤلاء دعماً مباشراً، برياً وجوياً وبحرياً.
الاعتقاد أنه في ظل هذه السياسة الأردوغانية التي لا تعرف صاحباً ولا صديقاً، قديماً أو جديداً، أن السعودية ستتضرر من غياب أردوغان كقوة ضاغطة على دمشق، لكن إذا استثنينا الوضع في سوريا فإن الرياض لن تكون مستاءة من إضعاف أردوغان، أو حتى خسارة الحزب الانتخابات، ليس لأن البديل سيدعم السعودية، وهذا غير موجود، بل لأن الرياض ستتخلص من أكبر منافسيها على زعامة العالم الإسلامي السني، والذي سبب لها إرباكات كثيرة باحتضان جماعة «الإخوان المسلمين»، وباستمرار تواصله مع طهران، ولو ضمن سقوف محددة.
أما تحقيق أردوغان نتيجة كبيرة في الانتخابات فيجب أن يثير الذعر في السعودية، لأنه يعني المركزة الكاملة للدولة بيده من جهة وحقن الحصان العثماني بحقنة جنون جديدة على الصعيد الخارجي، ستدفع راكبه إلى محاولة استعادة مصر المحروسة من جهة، وما يعنيه ذلك من ضرب النفوذ السعودي، والتفرد بالتدخل في سوريا ورسم المسارات، وفقاً لما يراه هو مناسباً لتركيا، خارج اعتبارات الحسابات السعودية. ولعل الخيار الأفضل للسعودية أن يبقى «حزب العدالة والتنمية» في السلطة بحدود حجمه الحالي بل أقل.
أما إذا بقيت الخريطة النيابية التركية على ما هي عليه تقريباً الآن، فهذا يعني استمرار الوضع والمواقف التركية على ما هي عليه اليوم من تحالفات موضعية، واقتناص لفرصة هنا أو هناك، مع إبقاء هدف واحد لا يتغير نصب عيني أردوغان: إسقاط النظام في سوريا ومحاولة تغيير الوضع في مصر قدر الإمكان. كل ذلك مرتبط بنقطة أو حتى نصف نقطة من هنا، ونقطة أو اثنتين من هناك صعوداً أو نزولاً، وهذا يجعل الانتخابات التركية هذه المرة مثيرة فعلاً ومؤثرة في نتائجها.
محمد نور الدين/ السفير