العرب حاوروا الاسرائيليين، مثلما اقاموا مراكز ومعاهد للحوار مع الاديان الاخرى، ولكنهم ظلوا ينظرون الى ايران نظرة العدو، وسخروا كل اجهزة اعلامهم لشن حروب شرسة ضدها لاعبين على وتر التأجيج الطائفي، بينما عملت حكومات بعضهم على استجلاب حاملات الطائرات الامريكية وانفاق اكثر من 150 مليار دولار على شراء صفقات اسلحة لطائرات حديثة، والآن ها هم يدعون الى فتح حوار مع ايران.
جون كيري وزير الخارجية الامريكي الذي طار الى الرياض يوم الخميس الماضي والتقى وزراء الخارجية الخليجيين في قاعدة عسكرية، زف الخبر الصادم، وابلغهم ان الاتفاق بات ينتظر الرتوش الاخيرة، وانه جاء اليهم ليبغلهم به اولا، ثم لطمأنتهم بأن امريكا لن تتخلى عنهم، وان هذا الاتفاق لن يكون على حسابهم، ولكن القول شيء والحقيقة شيء آخر مختلف تماما.
ايران صبرت طويلا، ولم ترهبها حاملات الطائرات والسفن الحربية الامريكية، وقارعت المناورة البحرية باخرى، والصواريخ بالصواريخ، وصمدت تحت حصار اقتصادي امتد لاكثر من ثلاثين عاما، ولم تركع مطلقا عند اقدام الشيطان الاكبر الامريكي، بل هو الذي ركع عند اقدامها، وقرر اعتمادها قوة اقليمية عظمى حليفة يمكن الاعتماد عليها كشريك استراتيجي في اهم منطقة في العالم بأسره.
***
القوة الامريكية الاعظم في التاريخ عسكريا ادركت انها امام خيارين لا ثالث لهما في التعاطي مع "العناد" الايراني النووي، فاما ان تستخدم القوة العسكرية، وهذا غير مضمون النتائج، واما ان تجنح للسلم وفتح قنوات التفاوض السرية للوصول الى اتفاق ينقذ ماء وجهها، ويكون اقل كلفة، فاختارت الثاني، ولجمت جماح قارعي الحرب ضد ايران الاسرائيليين منهم والعرب.
العالم لا يحترم الا الاقوياء، والضعفاء ليس لهم غير السحق او التجاهل في افضل الاحوال، والرهان على الحليف الامريكي لا يقود الا الى خيبة الامل، وهذا ما حصل ويحصل للحكومات العربية حاليا، والدول الخليجية منها على وجه الخصوص.
امريكا ادركت ان ايران المحاصرة استطاعت ان تهيمن على نصف الدول العربية تقريبا، سيطرت على العراق واليمن ولبنان وسورية، ومدت نفوذها الى فلسطين عبر فصائل المقاومة وحركاتها، واحتضنت المقاومة، وتحالفت مع روسيا والصين، كل هذا وهي تحت الحصارين الاقتصادي والسياسي، فكيف سيكون الحال الآن وبعد رفع هذا الحصار في غضون اسبوعين، اي ان التوقيع على اتفاق الاطار الذي سيؤدي الى ذلك؟
ايران تقاتل الآن في العراق ضد "الدولة الاسلامية"، وفي سورية لمنع سقوط حليفها بشار الاسد، وتقترب قواتها من السيطرة على الجولان السوري المحرر في درعا والقنيطرة، وباتت تملك ترسانة عسكرية قوية، وطائرات بطيار وبدونه، كلها من انتاج مصانعها الحربية، فماذا يصنع العرب؟
وربما يجادل بعض الذين يقاومون تجرع كأس الهزيمة المر مرارة العلقم، بأن الاتفاق النووي سيؤدي الى تجميد عمليات التخصيب لعشر سنوات، وستكون المنشآت النووية تحت مراقبة لصيقة عبر كاميرات وكالة الطاقة النووية في فيينا، وهذا صحيح، ولكن مخزون ايران من اليورانيوم المخصب سيظل موجودا، وكذلك عشرون الف وحدة طرد مركزي، والاهم من كل هذا وذاك، الخبرة العالية والعقول الجبارة التي كانت وستظل تدير هذه البرامج ويمكن توظيفها في اي لحظة لصنع الاسلحة النووية، هذا اذا لم يكونوا نجحوا في تصنيعها في السر. (حسب عبدالباری عطوان)
الوزير الاردني جودة يتحدث عن حوار تقوم به الجامعة العربية مع ايران، ولا نعرف ما اذا كان قام بهذه المبادرة من بنات افكاره وحكومته، ام انه مكلف بها من قبل حلفاء بلاده الخليجيين الذين يهيمنون على هذه الجامعة منذ انسحاب مصر من الساحة، وتدمير العراق، واغراق سورية في الحرب الاهلية، وتحويل ليبيا الى دولة فاشلة، وتفجير الحرب المذهبية في اليمن، فالاردن لا يمكن ان يقوم بمثل هذه المبادرة دون ان يوصى بها من هنا او هناك.
دعوة الوزير الاردني الى الحوار تظل غامضة، ودعونا نعوم بفلك غموضها ونقول ان الحوار مع طهران يعني الحوار مع الرئيس بشار الاسد في سورية، واقامة جسور الود مع السيد حيدر العبادي رئيس وزراء العراق، ووقف مهاجمة "حزب الله"، والاعتراف بحركة "انصار الله" الحوثية كحركة يمنية اصلاحية اصيلة، والاستماع الى مطالب المعارضة الشيعية في البحرين التي تقدمت بها الى الاسرة الحاكمة اثناء الحوار الذي رعاه ولي عهد البلاد، والافراج عن الشيخ علي سلمان رئيس حركة الوفاق.
فاذا كان الحوار المقبل مع ايران لا يشمل هذه القضايا والمطالب، فعلى ماذا سيتحاور العرب وجامعتهم مع ايران؟ حول اسعار الفستق الحلبي، ام تصدير سمك الزبيدي، ام قضايا التلوث البيئي في منطقة الخليج(الفارسي)؟
***
هل سيلجأ العرب في المرحلة المقبلة الى (اسرائيل) ام تركيا، ام باكستان، ام الثلاثة معا؟ ولكن لماذا الاعتماد على الآخرين دائما، الا تكفي الطعنة الامريكية الاخيرة المسمومة لاستيعاب الدروس وتجنب الاخطاء، لم يحن الوقت للاعتماد على الذات في مشروع عربي متكامل سياسيا وعسكريا واقتصاديا؟ اليس بين العرب حكماء وعقلاء يقولون كفى لقد طفح الكيل؟
دعونا نعترف وفوق رؤوس الاشهاد ان المشروع الايراني بدأ يعطي ثماره، وان امريكا انحازت اليه، بل وعلى وشك ان تتبناه كحليف استراتيجي، وان حاكم طهران قد يصبح صانع "الملوك" في المنطقة العربية قريبا، ولا عزاء للعرب الضعفاء.
نحن كنا، وما زلنا، مع الحوار مع ايران، وقبل ان تلجأ اليه امريكا، والوصول الى هذا الاتفاق النووي الوشيك، ولكننا في الوقت نفسه طالبنا، وما زلنا نطالب، بمشروع عربي يرتكز على العلم والتنمية والعدالة والديمقراطية والاعتماد على الذات والوقوف في وجه جميع المشاريع الاخرى واولها، وعلى رأسها، المشروع الصهيوني، اما اي خيار آخر فلا يعني غير الاستمرار في مسلسل الاخطاء الكارثية التي اوصلتنا الى هذا الانهيار.
رأي اليوم - عبد الباري عطوان