ومنذ فترة وجيزة قامت قاذفتان استراتيجيتان روسيتان من طراز ТU-22M3 ترافقهما اربع مقاتلات من طراز SOU-27 بمحاكاة هجوم جوي على هدفين حربيين في السويد: الأول، غير بعيد عن ستوكهولم، والثاني في جنوب البلاد. وفي شهر ايلول/سبتمبر الماضي اجرت روسيا المناورات العسكرية المسماة "الغرب ـ 13" وشاركت فيها قوات مسلحة بيلوروسية ايضا. وجرت المناورات على أراضي بيلوروسيا على الحدود مع بولونيا، لاتفيا وليتوانيا، وفي الوقت ذاته في مقاطعة كاليننغراد الروسية على شواطئ البلطيق والتي تقع بين بولونيا وليتوانيا.
وأعلن أن هدف المناورات هو التدريب على عمليات مضادة للارهاب ضد "تشكيلات عسكرية غير قانونية". ولكن مناورات " الغرب ـ 2013" كانت موجهة بالفعل ضد القوات المسلحة النظامية على الأرض الأوروبية. انما ضد من؟ جوابا عن هذا السؤال فإن الباحث ستيفن بلانك من مؤسسة Jamestown Foundation يقول ان مسألة الارهابيين لم تكن سوى خدعة لتمويه الاهداف الحقيقية للمناورات. وحسب رأيه ان الدعاية الروسية تصر عادة على أن الدول البلطيقية المستقلة، بتوجهاتها الموالية لأوروبا واميركا، هي تجسيد لأنظمة نازية معاصرة، بمقدار ما هي جاحدة للجيش الأحمر الذي حررها من الاحتلال النازي.
وقد شارك في المناورات المشار اليها حوالى 70000 جندي، أي أكثر بثلاثة أضعاف من الرقم الذي أبلغته الحكومة الروسية مسبقا لـ"الناتو". والحقيقة انه، بعكس ما أعلنته الصحافة البولونية، فإن روسيا لم تجر تدريبا على توجيه ضربة نووية الى فرصوفيا، كما سبق وفعلت قبلا. ولكن حشد 70000 جندي هو عدد كبير جدا لعملية تدمير "ارهابيين" على الأرض، وفي الجو والبحر. وقد شارك في التشكيلات القتالية قوات مشاة بحرية بيلوروسية، وقوات مظليين روس، ووحدات خاصة و10000 من قوات وزارة الداخلية الروسية، وكذلك طائرات بدون طيار لتوجيه وتقويم الاصابات.
وحسب كلمات كارليس نيريتنيكس Karlis Neretnieks من الأكاديمية الملكية العسكرية للسويد، فإن هدف المناورات إنما كان إعلام اوروبا، بأن الجيش الروسي قد خرج من حالة الضعف التي ظهر فيها في "الحرب الصيفية" في سنة 2008 في جورجيا. "وبالاجمال نحن نراقب كيف أن روسيا نمّت بسرعة قدراتها على خوض عمليات عسكرية واسعة النطاق ومعقدة في المناطق المحيطة بها، بالتنسيق مع خوض عمليات في مناطق اخرى. وسيكون من الخطأ النظر الى ذلك بوصفه مشكلة فقط لدول البلطيق" حسب قوله.
وفي 28 تشرين الاول/ نوفمبر قامت خمس طائرات قتالية روسية بمحاكاة توجيه ضربة جوية ضد السويد، بولونيا وليتوانيا، وعادت الى القاعدة الجوية في اقليم كاليننغراد. ولكن هذه المرة كانت القوات الجوية السويدية مستعدة وأرسلت مقاتلتين لاعتراض القاذفات الروسية. ومنذ وقت قريب قامت القاذفات الروسية البعيدة المدى باختراق المدى الجوي لكل من كولومبيا واليابان، ما دفع هذين البلدين لوضع قواتهما الجويّة في حالة التأهب القصوى.
هذا وقد ابدت دولتان ـ عضوان في حلف "الناتو"، هما بولونيا واستونيا، القلق العميق من ان تقوم بعض القوات المشاركة في المناورات باقتحام أراضيها. وصرح وزير الخارجية البولوني راديك سيكورسكي Radek Sikorski بأنه يمكن بسهولة ان يتصور ان تندلع حرب جديدة في القارة الأوروبية، على الرغم من التأكيدات التطمينية للسكرتير العام لحلف الناتو انديرس فوغ راسموسين Anders Fogh Rasmussen بأن زمن الحروب الأوروبية قد ولى. ولكن هذا لا يمنع من النظر الى ان القوة العسكرية الروسية تعود "للظهور" بالتأكيد، وهو ما يشكل بالنسبة لأوروبا خطراً أكبر مما كان بعد انهيار الاتحاد السوفياتي. وخلال اجتماع ايلول/سبتمبر للجمعية العمومية للامم المتحدة، اذاع احد الدبلوماسيين سراً بأن ممثلي بلدان أوروبا الشرقية استقبلوا بقلق عميق تصريح باراك اوباما: "اننا لم نعد نخوض حربا باردة". وهم يشككون فيما اذا كانت روسيا توافق معه على ذلك.
وينبغي الملاحظة أن المناورات التي أجراها حلف "الناتو" منذ فترة وجيزة تنفي التطمين حول الامن الاوروبي. ان مناورات " الغرب ـ 2013" وغيرها من التدريبات غير المعلنة على هجمات صورية قد تم بلا شك تنظيمها من قبل روسيا كرد استباقي على المناورات الاضخم لـ"الناتو" في السنوات السبع الأخيرة التي جرت بالذخيرة الحية تحت اسم Steadfast Jazz 2013. وقد جرت هذه المناورات في البلدان البلطيقية الثلاثة وبولونيا، من الثاني الى التاسع من تشرين الثاني/نوفمبر، وكان هدفها التأكيد لتلك البلدان على تصميم "الناتو" على المجيء لنجدتها، كما قال راسموسين "اذا تعرضت للهجوم من قبل اي جهة سيئة النيات". ولكنه أعلن أيضا ان Steadfast Jazz ليست بأي شكل من الأشكال جوابا أو رداً مضادا على مناورات " الغرب ـ 2013" الروسية. وأضاف ان هذه المناورات هي "اشارة الى كل من يظهر نية لمهاجمة حلفاء "الناتو"... بحيث يمكن القول ان هذه الاشارة هي موجهة لمن يلزم".
ويعتبر بعض المراقبين ان واشنطن تبدي قليلاً من الاهتمام بحلفائها في أوروبا الشرقية، وقد تبدى ذلك من واقعة أنه من اصل 6000 جندي شاركوا في مناورات Steadfast Jazz فإن عدد الاميركيين كان 160 نفرا فقط. أما فرنسا فقد شاركت بـ 1000 جندي. كما شاركت فيها بلدان غير أعضاء في الناتو وهي السويد، فنلندا وأوكرانيا.
ان "الناتو" يبدو لروسيا مصدرا للمخاوف، خصوصا بعد أن تم حل حلف فرصوفيا الذي كان مضادا له. وقد أعلن وزير الدفاع الروسي الجديد سيرغيي شويغو أنه تم هذه السنة زيادة الميزانية الحربية لروسيا 26%.
ويعتبر شويغو من أوثق انصار بوتين، وهو يتمتع بشعبية واسعة في روسيا. وهو يطمح لاستعادة التعبئة السوفياتية السابقة. كما يطمح الى تحقيق برامج اعادة رسملة مؤسسات الصناعة الحربية، وهو يتولى الإشراف على بناء السفن الحربية، وعلى مجموعة من الاعتمادات التي أصبحت تمثل في الوقت الحاضر نصف الاعتمادات الأميركية المشابهة (قبل سنوات قليلة فقط كانت مبالغ هذه الاعتمادات تمثل فقط 10% من الاعتمادات الاميركية المشابهة). واذا تم تحقيق الأهداف المرسومة، فإن القوات البرية الروسية سنة 2020 ستمتلك 40 فرقة جديدة كاملة الجهوزية، أي أنها ستزيد ثماني فرق عما تخطط ان تمتلكه الولايات المتحدة الاميركية سنة 2017. و70% من هذه القطعات ستكون مجهزة بالتكنولوجيا الحربية المعاصرة. بالاضافة الى ذلك أعلنت وزارة الدفاع الروسية انه في سنة 2020 سيكون لدى روسيا جيش نظامي مؤلف من مليون جندي وضابط. وقد وعد الرئيس بوتين بتخصيص 755 مليار دولار لأجل التحديث الكامل للجيش الروسي لإحياء عظمته السابقة. وأعلن بوتين ان تحديث الجيش يمكن ان يصبح محركا لتحول اقتصادي شامل، أي أشبه بـ"قاطرة تسحب معها تطوير مختلف الفروع الاقتصادية: التعدين، الانشاءات الميكانيكية، الصناعة الكيميائية، الصناعة الالكترونية، وكل فروع صناعة تكنولوجيا المعلوماتية والاتصالات السلكية واللاسلكية".
*صوفيا ـ جورج حداد- كاتب لبناني مستقل