وما ان وصل الرسول الاکرم(ص) الی بيت الزهراء(ع) حتی تنزَل الوحي الالهي المقدَس علی رسول الله (ص) يبلَغه بأن الله تعالی قد سمَی الوليد المبارك (حسنا).
فهو الامام أبو محمد الحسن بن علي بن أبي طالب المجتبی، ثاني أئمة اهل البيت عليهم السلام بعد رسول الله صلی الله عليه وآله وسلم، وسيد شباب اهل الجنة باجماع المحدثين، واحد اثنين انحصرت بهما ذرية رسول الله (ص)، وأحد الاربعة الذين باهی بهم رسول الله (ص) نصاری نجران، ومن المطهَرين الذين أذهب الله عنهم الرجس، ومن القربی الذين أمر الله سبحانه بمؤدتهم، وأحد الثقلين الذين من تمسك بهما نجا ومن تخلَف عنهما ضلَ وغوی.
نشأ في أحضان جدَه رسول الله (ص) وتغذَی من معين رسالته وأخلاقه ويسره وسماحته، وظل معه في رعايته حيت اختار الله لنبيه دار خلده، بعد ان ورَثه هديه وأدبه وهيبته وسؤدده، وأهله للامامة التي کانت تنتظره بعد ابيه، وقد صرَح بها جدَه في أکثر من مناسبة حينما قال (الحسن والحسين إمامان قاما او قعدا، اللهم إني احبَهما فاحبَ من يحبَهما).
لقد اجتمع في هذا الامام العظيم شرف النبوة والإمامة، بالاضافة الی شرف الحسب والنسب، ووجد المسلمون فيه ماوجدوه في جدَه وابيه حتی کان يذکَرهم بهما، فأحبوه وعظَموه، وکان مرجعهم الأوحد بعد أبيه، فيما کان يعترضهم من مشاکل الحياة وما کان يستصعبهم من اُمور الدين، لاسيما بعد ان دخلت الامة الاسلامية حياة حافلة بالاحداث المريرة التي لم يعوفوا لها نظيرا من قبل.
وروی المفضَل عن المام جعفر الصادق عليه السلام عن ابيه عن جدَه: ان الحسن بن علي بن أبي طالب کان اعبد الناس في زمانه، وازهدهم وافضلهم وکان اذا حجَ حجَ ماشيا وربما مشی حافيا ،وکان اذا ذکر الموت بکی، واذا ذکر القبر بکی، واذا ذکر البعث والنشور بکی، واذ ذکر الممر علی الصراط بکی، واذا ذکر العرض علی الله - تعالی ذکره - شهق شهقة يغشی عليه منها.
وکان اذا قام في صلاته ترتعد فرائضه بين يدي ربه عزَ وجل وکان إذا ذکر الجنة والنار اضطرب اضطراب السلم وسال الله الجنة تعوذ من النار .... ).
وکان الامام الزکي المجتبی في جميع مواقفه ومراحل حياته مثالا کريما للخَلق الاسلامي النبوي الرفيع في تحمل الاذی والمکروه في ذات الله والتحلي بالصبر الجميل والحلم الکبير، حتی اعترف له ألد أعدائه - مروان بن الحکم - بان حلمه يوازي الجبال. کما اشتهر بالشجاعة والسماحة والکرم والجود والسخاء بنحو تميَز عن سائر الکرماء والاسخياء.
وشاهد کل المحن، من فقده لمعلمة الاول جده المصطفی (ص) ثم امه الزهراء ثم تجرع النکبات التي حلت بابيه امير المؤمنين علي بن ابي طالب والظلم الذي تعرض له وهو لايزال يافعا.
لقد کان الحسن في شبابه الی جانب ابيه عليه السلام في کل مايقول ويفعل واشترك معه في جميع حروبه .. وکان يعاني ما يعانيه ابوه من اهل العراق، ويتألم لآلامه وهو يری معاوية يبث دعاته ويغري القادة من جيش ابيه بالاموال والمناصب حيت فرَق اکثرهم، واصبح الامام علي عليه السلام يتمنَی فراقهم بالموت أو القتل، فاستَشهد عليه السلام، وبقي الحسن ابی علي (ع) بين تلك الاعاصير بين اهل الکوفة المتخاذلين وفلول الخوارج المارقين وتحديات اهل الشام القاسطين.
وبعد ان نص أمير المؤمين (ع) علی خلافه ابنه الحسن الزکي وسلَمه مواريث النبوة، اجتمع عليه اهل الکوفة وجماعة المهاجرين والانصار وبايعوه بالخلافة بعد أن طهَره الله من کل نقص ورجس، بالاضافة الی توفرَ جميع متطلبات الخلافة فيه من العلم والتقوی والشجاعة والحزم والجدارة، وتسابق الناس الی بيعته في الکوفة والبصرة، کما بايعه اهل الحجاز واليمن وفارس وسائر المناطق التي کانت تدين بالولاء والبيعة لابيه عليه السلام، وحين بلغ نبأ البيعة معاويه واتباعه بدأوا يعملون بکل مالديهم من مکر وخداع لافساد امره والتشويش عليه.
واستلم الامام الحسن السلطة بعد ابيه، وقام بأفضل ما يمکن القيام به في ذلك الجوَ المشحون بالفتن والمؤمرات فامر الولاة علی اعمالهم واوصاهم بالعدل والاحسان ومحاربة البغي والعدوان ومضی علی نهج ابيه عليه السلام الذي کان امتدادا لسيرة جده المصطفی (ص).
وبالرغم مما کان يعلمه الامام الحسن عليه السلام من معاوية ونفاقه ودجله وعدائه لرسالة جده وسعيه لاحياء مظاهر الجاهلية ... بالرغم من ذلك کله، ابی ان يعلن الحرب الا بعد ان کتب اليه المرة بعد المرة يدعوه الی جمع الکلمة وتوحيد امر المسلمين فلم يبقی له في ذلك عذرا او حجة.
من ناحية اخری اطمأن معاوية الی ان الامور ممهمدة له باعتبار علاقته المتينة مع اکثر قادة الامام الحسن .. من هنا اعد معاوية العدة لمحاربة الامام المجتبی عليه السلام واطمأن بان المعرکة ستکون لصالحة وسيکون الحسن والمخلصون له من جنده، بين قتيل واسير ، ولکن هذا الاستيلاء سوف يفقد الصيغة الشرعية التي کان يحاول ان يتظاهر بها لعامة المسلمين، ولذلك حرص معاوية ان لايتورط في الحرب مع الامام الحسن معتمدا المکر والخداع والتموية وشراء الضمائر وتفتيت جيش الامام ولم يکن للامام بد من اختيار الصلح بعد ان تخاذل عامة جيشه واکثر قادته ولم يبقی معه الا فئة قليلة من اهل بيته والمخلصين من اصحابه، فتغاضی عن السلطة دفعا للافسد بالفاسد في ذلك الجو المحموم فکان اختياره للصلح في منتهی الحکمة والحنکة السياسية الرشيدة تحقيقا لمصالح الاسلام العليا واهدافه المثلی.
فلقد تعرّض الإمام الحسن السبط (عليه السلام) للنقد اللاذع من شيعته وأصحابه الذين لم يتّسع صبرهم لجور معاوية، مع أنّ أكثرهم كان يدرك الظروف القاسية التي اضطرّته الى تجنّب القتال واعتزال السلطة، كما أحسّ الكثير من أعيان المسلمين وقادتهم بصدمة عنيفة لهذا الحادث لِما تنطوي عليه نفوس الاُمويّين من حقد على الإسلام ودعاته الأوفياء، وحرص على إحياء ما أماته الإسلام من مظاهر الجاهلية بكلّ أشكالها.
ولكنّ الإمام بصلحه المشروط فسح المجال لمعاوية ليكشف واقع اُطروحته الجاهلية، وليعرّف عامة المسلمين البسطاء مَن هو معاوية ؟ ومن هنا كان الصلح نصراً ما دام قد حقّق فضيحة سياسة الخداع التي تترّس بها عدوّه.
ونجحت خطّة الإمام حينما بدأ معاوية يساهم في كشف واقعه المنحرف، وذلك في إعلانه الصريح بأنّه لم يقاتل من أجل الإسلام، وإنّما قاتل من أجل المُلك والسيطرة على رقاب المسلمين، وأنّه سوف لا يفي بأيّ شرط من شروط الصلح.
بهذا الإعلان وما تلاه من خطوات قام بها معاوية لضرب خط عليٍّ (عليه السلام) وبنيه الأبرار وقتل خيرة أصحابه ومحبّيه كشف النقاب عن الوجه الاُموي الكَريه ، ومارس الإمام (عليه السلام) مسؤولية الحفاظ على سلامة الخط بالرغم من إقصائه عن الحكم، وأشرف على قاعدته الشعبية فقام بتحصينها من الأخطار التي كانت تهدّدها من خلال توعيتها وتعبئتها، فكان دوره فاعلاً إيجابياً للغاية، ممّا كلّفه الكثير من الرقابة والحصار، وكانت محاولات الاغتيال المتكرّرة تشير الى مخاوف معاوية من وجود الإمام (عليه السلام) كقوة معبّرة عن عواطف الاُمّة ووعيها المتنامي، ولربّما حملت معها خطر الثورة ضد ظلم بني اُمية، ومن هنا صحّ ما يقال من أنّ صلح الإمام الحسن (عليه السلام) كان تمهيداً واقعياً لثورة أخيه أبي عبدالله الحسين (عليه السلام).
ولهذا قرّر معاوية التخلص من الإمام الحسن، ووضع خطّته الخبيثة بالاتفاق مع جعدة ابنة الأشعت بن قيس التي دسّت السم لزوجها الإمام (ع)، واستشهد من جراء ذلك الإمام الحسن (ع).
وکان الامام عليه السلام قد أوصی ان يدفن الی جوار جده رسول الله صلی الله عليه وآله وسلم إلا أن بني أمية، وعلی راسهم مروان بن الحکم منعوا من ذلك وحالوا بين ان يجمع بين رسول الله (ص) وريحانته ووحبيبه وسبطه الحسن سيد شباب اهل الجنة، فاضطر اهل البيت عليهم السلام لدفنه في البقيع.
فسلام عليك يا أبا محمد الحسن بن علي مظلوما: حيَا وميتا.