يجد المراجع لآيات الكتاب الكريم والمروي عن سيد المرسلين وآله الطاهرين عظم المسؤولية التي ألقيت على عاتق العلماء في الأمة، فهم الذين يحملون وظيفة إرشاد الناس ودلالتهم على ما فيه خلاصهم في دنياهم وآخرتهم.
وتتعاظم مسؤوليّة العلماء كلما انتشر الفساد أو كثرت الشبهات التي يواجهها الناس، لأن مسؤوليّة بيان الحق ومواجهة الفساد تتطلّب أن يكون ذلك بمستوى الواقع القائم، ومهما اختلفت الأسباب الموجبة له فإنّ على العلماء أن لا يبتعدوا عن ساحة المواجهة وعن استخدام ما يتوافر لديهم من وسائل وأدوات تمنحهم فرصة القيام بواجبهم وأداء دورهم.
فالوقوف بوجه الظلم والظلمة فريضة إلهيّة قام على أساسها دين الإسلام، والكفر بالطاغوت هو الاستمساك بالعروة الوثقى والعلماء هم أجدر من يستمسك بها.
ومتى توافرت الظروف للعلماء لتأدية دورهم فإنّ الحجة تتعاظم وتكون آكد، ولا يمكنهم الاعتذار بشيءٍ ممّا قد يكون عذراً في سائر الحالات والظروف.
وهذا هو حال الأمة الإسلاميّة اليوم بعد الصحوة الإسلاميّة التي اجتاحت العالم الإسلاميّ، فتلك الشعوب التي قامت بكلّ ما أوتيت من قوة وضحت في سبيل حريتها وكرامتها واستقلالها اتّجهت إلى العلماء لتسألهم القيام بهذه المهمة، أي مهمة السير بها إلى نيل ما تريد في ظلّ دين الإسلام، هذه الحالة لا تدع عذرا للعلماء في ترك القيام بواجبهم وأداء ما عليهم من تكليف كلفهم الله عز وجل به.
نسعى في هذه السطور للإضاءة على بعض وظائف العلماء في عصر الصحوة الإسلامية، وما عليهم القيام به.
وظائف العلماء في عصر الصحوة الإسلامية
الوظيفة الأولى: وظيفة الوقوف مع الناس
لا يمكن للعلماء أن يقفوا موقف المتفرج إزاء نهضة الأمة وحركتها في الآونة الأخيرة، وأي تقصير في هذه المجال سوف يكون له تأثيره على الشعوب وعلى تأثيرهم في هذه الشعوب في المستقبل.
فالناس في بداية حركتها تجد أن على العلماء أن يقفوا معهم لأنّ مطالبهم محقة، ومهما كانت الأسباب المحركة للناس للقيام والنهوض فإنّ قيامهم ينبع من حاجة يعيشونها وظلم يمارس عليهم، ولا يمكن لمسلم أن يقف دون أن يكون في نصرة أخيه المسلم، لا سيما اذا استنجده واستصرخه، وهذا ما حدث فعلا في حراك الصحوة الإسلامية.
لا تعذر الناس العلماء إذا وقفوا موقف المحايد، وذلك لأن أمل الناس ورؤيتهم للعلماء بُنيت على أساس أنّ العلماء هم الذي يحملون تعاليم هذا الدين وهذه التعاليم تفرض على الإنسان أن لا يسكت على ظلم يواجهه ويتعرض له.
الوظيفة الثانية: التوجيه والإرشاد
وهي الوظيفة الأولية للعلماء في الحالات العادية وضمن الظروف الطبيعية، وتشتد هذه المسؤولية في ظل الحاجة الشديدة للناس، فكلما كثرت الشبهات أو تعددت وسائل الغزو الثقافي والفكري التي تريد السيطرة على عقول الناس ازدادت الحاجة إلى قيام العلماء بواجب التوجيه والإرشاد.
وفي حركة الصحوة الإسلامية نلحظ كيف سعت دول الاستكبار ومن خلال التخلي عن أزلامها الذين قام الناس بوجههم للسيطرة على عقول الناس والتأثير عليهم، لقد تصرف الغرب بمكر بالغ ودهاء عظيم، محاولة منه لتدارك ما قد يفوته، فأطلق شعارات تتناسب مع حركة الناس، محاولا استدراك ما قد يطاله من هذا الحراك.
وهنا تكمن وظيفة العلماء في التحذير من الانجرار وراء الشعارات الزائفة التي قد يطلقها من لا يريد إلا الحفاظ على مصالحه.
ولذا فإن من واجب العلماء بيان زيف تلك الشعارات وفضح ممارسات تلك الدول في السابق، لئلا ينخدع الناس، كما أن من واجبهم بيان الحق في الشعار الذي ينسجم مع ما يدين به الناس من اعتقاد.
الوظيفة الثالثة: حماية الصحوة من المخاطر الخارجية
كما يتم العمل على حماية الصحوة من خلال التوجيه والارشاد لا بد من العمل على حمايتها من خلال مواجهة المخاطر الخارجية، والامساك بزمام مواجهة محاولات استيعاب هذه الصحوة وتوجيهها بالاتجاهات الخاطئة.
لقد بادر الغرب إلى مخاطبة العلماء والتواصل معهم لأنه كان يرى فيهم عاملا مؤثرا، وغرض الغرب كان أن يلتزم هؤلاء العلماء جانب الحياد في الموضوع، ولكن الواجب يفرض مواجهة هؤلاء بشتى الوسائل والاساليب من المواجهة المباشرة عبر تسجيل موقف واضح خلال اللقاءات التي تجمع العلماء بالرسل والوسائط او من خلال تسجيل مواقف علنية في خط المواجهة.
الوظيفة الرابعة: الحماية من الداخل
المخاطر المحدقة بهذه الصحوة لا تقتصر على ما يأتي من الخارج، بل في الداخل الكثير من المخاطر التي قد تتوافر ظروفها لسبب او لآخر، وقد يستغلها الغرب كما قد يستغلها المتنفذون وأصحاب المصالح والمنافع، ولا بد للعلماء من حماية الصحوة من هذه المخاطر والتي تتمثل بالتالي:
أ ـ خطر الانزلاق نحو العلمنة
من الناس من لا يرى في الاسلام منهاج حياة لا بد للإنسان من السير عليه في كل مفردات هذه الحياة، بل يراه خاصا بالمسجد وبالعلاقة مع الله فقط، وهذا ما يخالف وبوضوح تعاليم هذا الدين وباتفاق كافة علماء الإسلام، وهؤلاء يتواجدون في الداخل ويعيشون بين الناس، يبثون أفكارهم ويستخدمون أسلوب التخويف للناس من أن الإسلام إن ساد وأصبح حاكما فإنه سوف يحد من حرياتهم ويجعلهم تحت هيمنة علماء الدين.
ولا بد للعلماء من مواجهة ذلك، ببيان حقيقة هذا الدين الذي يكفل سعادة الإنسان بما يحمله من تشريعات إلهية، وهو الدين الذي يخرج الإنسان من الظلمات إلى النور.
وحياة الإنسان حيث لا تقتصر على هذه الحياة الدنيا، فإن عليه أن يسعى لتأمين مصيره الذي ينتظره بعد هذه الحياة، والعلمانية كاتجاه يسعى لفرض نفسه بديلا يغفل نهائيا هذا المنعطف الإساسي في حياة الإنسان، وهو مفصل الانتقال من هذه الحياة إلى حياة أخرى.
ب ـ خطر الانزلاق نحو الفتنة
من أخطر ما تواجهه الصحوة الإسلامية بعد أن تسجل انتصارها على الاستبداد، خطر الفتنة التي تحدق بها، والتي تأخذ أشكالا متعددة، طائفية او مناطقية او عرقية. ولا نستطيع أن نرمي بثقل ذلك وبالأسباب الموجبة له على الآخرين، بل جذوره تكمن في أفكار الناس وفي عقولهم، والتي قد تتغذى أحيانا حتى من قبل بعض أهل العلم، ولذا كان على العلماء الذي يدركون مخاطر ذلك من محاربة أسباب الفتنة وتوحيد الأمة في إيمانها، بدل تفرقتها بعصبياتها.
إن العناصر الموحدة للأمة تغلب كثيرا عناصر التفرقة، ولكننا نجد في كثير من الأحيان كيف تتغلب تلك العناصر المحدودة بسبب التفعيل الذي تجده من قبل بعض الناس، ولذا فتوجيه العلماء خطابهم نحو ما العناصر الموحدة من الإنسانية والإيمان وما يجمع الناس من عقيدة بالنبي وبالرسالة، له تأثيره البالغ على وأد تلك الفتنة.
إن خطورة الانزلاق نحو الفتنة تفرض على العلماء السعي للمنع من اتقادها لا انتظار وقوعها، لأن إطفائها أصعب بدرجات من منع حدوثها.
والمحرك الأول للعلماء هو الشعور بخطورتها لا ظهور بوادرها، لأن من العلماء من لا يتحرك لوأدها إلا بعد أن يرى بوادرها وقد يعجز عن فعل شيء إزاء ذلك.
إن أخطر ما نواجهه في هذه الحالة أن يعيش العلماء في داخلها او يكونوا من قادتها، فإن الفجيعة تتضاعف حينئذ إذ يصاب بالعجز من يسعى لإطفاء نائرتها.
ج ـ خطر الاستبداد
إن ما يريده الناس من نهضتهم وقيامهم مواجهة الاستبداد والسعي لإزالته لا استبدال المستبد بمستبد آخر. وقد ينحدع الناس بمن سار معهم في نهضتهم وحمل لواء الصحوة معهم، ولكنه تحول تدريجيا إلى مستبد يريد السلطة والهيمنة، ولذا كان هذا من أشد المخاطر التي تحدق بهذه الصحوة.
لا يتبدل المستبد إلى مستبد آخر في الثورات التي يقوم بها الناس جميعا بشكل دفعي، بل إن ذلك يتم بشكل تدريجي، ووظيفة العلماء الذين يدركون ما يجري حولهم ويحيطون بما قد لا يحيط به الكثير من الناس أن يواجهوا ذلك من خلال إيقاظ الناس إلى ما يدور حولهم وإلى ما يمكن أن تصير إليه الأمور، ومن خلال التوجيه المباشر للذي يتصدى للسلطة بعد الصحوة بأن لا ينزلق الى الاستبداد.
عن أمير المؤمنين علي عليه السلام في تفسير قوله تعالى: ( لعن الذين كفروا من بني إسرائيل - إلى قوله : - لبئس ما كانوا يفعلون ) * ( 1 ) . وإنما عاب الله ذلك عليهم لأنهم كانوا يرون من الظلمة الذين بين أظهرهم المنكر والفساد فلا ينهونهم عن ذلك ، رغبة فيما كانوا ينالون منهم ، ورهبة مما يحذرون ، والله يقول : * ( فلا تخشوا الناس واخشون ).
د ـ خطر الغرور وعدم الاستمرار
تقوم الثورات والصحوات على أساس الأمل الكبير الذي ينشده الناس، وقد تحقق هذه الثورات بعض المكاسب وهنا قد يختلف الناس في تقييمهم لما وصلوا إليه وأمكنهم تحقيقه، فبعضهم يكتفي بذلك وينكفأ بحجج متعددة، وهو من المخاطر التي تحدق بالثورات وتجعلها ذات أفق محدود في تحركها وقيامها.
إذا واجه المستبد أناسا يقنعون بالحد الأدنى فإنه سوف يعطيهم ذلك لأجل الحفاظ على السلطة التي يرأسها، ولكنه إنما يتراجع وينكفئ ويصاب بالهزيمة إذا أدرك أن الناس ليسوا كما يظن، وهذا حال المستبد في كل عصر في سنة من السنن التي يسير عليها هؤلاء الأشخاص، ولذا كانت وظيفة العلماء توجيه الناس إلى ضرورة الاستمرار في قيامهم ونهضتهم بالنحو الذي يتيح لهم أن يحققوا المكاسب العليا، وأن لا ينخدعوا بما قد يسعى إليه المستبد.
والمشكلة تتفاقم إذا لم يكن لدى العلماء ذلك الوعي الذي يؤهلهم دراسة الأهداف بدقة، وتوحيد كلمة الناس نحو تلك الأهداف، وحث من يقصّر من الناس في طريق السعي لتحقيق تلك الأهداف.
وفي الختام
أشرنا في هذه السطور إلى بعض المخاطر التي تتهدد الصحوة الإسلامية والتي تتطلب جهدا مضاعفا من العلماء لا سيما في ظروفنا الحالية بما يؤهل هؤلاء العلماء للقيام بدورهم الريادي في قيادة الأمة.
إن ما له أهمية هنا هو اتحاد كلمة العلماء من خلال تواصلهم في دراسة الأفكار والآراء ومناقشتها والعمل على تحديد المشتركات التي إن انصب جهد العلماء عليها أمكنهم أن يؤدوا وظيفتهم على أكمل وجه وأتم حال.
وأختم الكلام برواية عن الإمام زين العابدين ( عليه السلام ) - في كتابه إلى محمد بن مسلم الزهري يعظه - : كفانا الله وإياك من الفتن ورحمك من النار ، فقد أصبحت بحال ينبغي لمن عرفك بها أن يرحمك ، فقد أثقلتك نعم الله بما أصح من بدنك وأطال من عمرك ، وقامت عليك حجج الله بما حملك من كتابه ، وفقهك فيه من دينه ، وعرفك من سنة نبيه محمد ( صلى الله عليه وآله ) ، فرضي لك في كل نعمة أنعم بها عليك ، وفي كل حجة احتج بها عليك الفرض بما قضى ، فما قضى إلا ابتلى شكرك في ذلك وأبدى فيه فضله عليك ، فقال : ( لئن شكرتم لأزيدنكم ولئن كفرتم إن عذابي لشديد ). فانظر أي رجل تكون غدا إذا وقفت بين يدي الله فسألك عن نعمه عليك كيف رعيتها ؟ وعن حججه عليك كيف قضيتها ؟ ولا تحسبن الله قابلا منك بالتعذير ولا راضيا منك بالتقصير ، هيهات هيهات ! ليس كذلك ، أخذ على العلماء في كتابه إذ قال : ( لتبيننه للناس ولا تكتمونه ). وأعلم أن أدنى ما كتمت وأخف ما احتملت أن آنست وحشة الظالم وسهلت له طريق الغي بدنوك منه حين دنوت وإجابتك له حين دعيت ، فما أخوفني أن تكون تبوء بإثمك غدا مع الخونة ، وأن تسأل عما أخذت بإعانتك على ظلم الظلمة ، إنك أخذت ما ليس لك ممن أعطاك ، ودنوت ممن لم يرد على أحد حقا ولم ترد باطلا حين أدناك ، وأحببت من حاد الله . أوليس بدعائه إياك حين دعاك جعلوك قطبا أداروا بك رحى مظالمهم ، وجسرا يعبرون عليك إلى بلاياهم ، وسلما إلى ضلالتهم ؟ ! داعيا إلى غيهم ، سالكا سبيلهم ، يدخلون بك الشك على العلماء ، ويقتادون بك قلوب الجهال إليهم ، فلم يبلغ أخص وزرائهم ولا أقوى أعوانهم إلا دون ما بلغت من إصلاح فسادهم واختلاف الخاصة والعامة إليهم . فما أقل ما أعطوك في قدر ما أخذوا منك ؟ ! وما أيسر ما عمروا لك ؟ ! فكيف ما خربوا عليك ؟ ! فانظر لنفسك فإنه لا ينظر لها غيرك ، وحاسبها حساب رجل)
نسأل الله التوفيق للجميع في ذلك وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
*المجمع العالمي للتقريب بين المذاهب الإسلامية