استناداً إلى ذلك، يمكن الاستنتاج بأن نجاح القبة الحديدية التي هي عبارة عن محاولة إصابة رصاصة برصاصة أو صاروخ بصاروخ، هي أيضاً مسألة في غاية الصعوبة، لكن من المرجح أن يكون صاروخ القبة الحديدية مزوداً بصاعق اقترابي يحدد القرب من الهدف عبر موجات رادارية، وينفجر عند الاقتراب الكافي منه ما يغني عن الإصابة المباشرة. ورغم أن الصاعق الاقترابي قد استعمل بنجاح في الأسلحة المضادة للطائرات منذ أواخر الحرب العالمية الثانية، إلا أن تفجير الصاروخ يطرح صعوبة إضافية لأنه – على عكس الطائرة – له غلاف سميك من المعدن، ما يعني أن الانفجار يجب أن يكون قريباً جداً ليكون له تأثير حقيقي.
هذا، ولفهم صعوبات اعتراض الصاروخ عبر إصابته، لابد من النظر إلى نظام مجرب مثل نظام الدفاع عن السفن البحرية الروسي. ففي محاولته لتفجير صاروخ قادم، يطلق هذا النظام خمسة آلاف طلقة من العيار الثقيل في الدقيقة، مكوناً غيمة من الرصاص تفجر كل شيء تصادفه، وحتى مع ألفي طلقة تطلق على الصاروخ، تبقى إصابته وتدميره مسألة غير مضمونة، بمعنى أن النتائج في هذا المجال كانت غير مشجعة..
قد يكون الحكم النهائي على أنظمة كهذه يحتاج إلى معطيات أكثر من المعطيات المتداولة، لكن هناك مصدرين يمكن الاعتماد عليهما: التاريخ والعلم. في التاريخ القريب، هناك قصة شبيهة جداً بقصة القبة الحديدية، وهي قصة «حرب النجوم» التي أطلقها الرئيس الأميركي الأسبق «ريغان» عام 1983، وهي عبارة عن خطة طموح لبناء منظومة دفاع في مواجهة الصواريخ الباليستية السوفييتية آنذاك. ورغم أن العلماء قالوا إنهم بحاجة إلى عشر سنوات فقط ليحددوا (إمكانية الوصول) إلى هذا النظام، إلا أن الجيش الأميركي بدأ يبث مشاهد تصور «النجاح الباهر» في تدمير الصواريخ. ولم يعترف الأميركيون بعملية الخداع هذه حتى عام 1994، حين كشفوا عن الحقيقة بعدما انهار الاتحاد السوفييتي. وقد برر البنتاغون عملية الخداع هذه بالحاجة للتأثير في مفاوضات الحد من التسلح، وهو أمر نجح فعلاً، وربما أكثر من المتوقع له، ففي القمة التي عقدت بين الرئيسين (غورباتشوف وريغان) في عام 1985 طلب غورباتشوف وقف (حرب النجوم) ما أفشل القمة بسبب رفض (ريغان) لهذا الطلب!
إذاً، حققت حرب النجوم نجاحاً دعائياً هائلاً رغم فشلها الكامل تكنولوجياً، وتمثل ذلك النجاح بالمليارات التي صرفها السوفييت لمواجهة هذه الحرب (الدعائية) على التسلح.
أما في العلم، فإن النقاش حول قدرة العلم على التفسير والتنبؤ بالظواهر الفيزيائية بشكل كامل (كالتنبؤ بمسار صاروخ)، فقد أثبتت التجارب العلمية استحالة التنبؤ بذلك، بل إن الممكن فقط، هو إيجاد أجوبة تقريبية لأن المسألة شديدة التعقيد.
وهكذا أصبحت مسألة عدم القدرة على التوقع مرتبطة بعدم القدرة على إيجاد التساوي بين كل المتغيرات بين النظام المعروف والنظام المرغوب في توقعه.
والآن وبالعودة إلى مثال إطلاق الرصاص، فإن المتغيرات المؤثرة في سرعة الرصاص عديدة وأهمها: قوة حشو البارود، وبالتالي، حتى نستطيع توقع حركة رصاصة، يجب أن تتساوى متغيرات هذه الرصاصة مع متغيرات رصاصة سابقة تم قياسها. وهذا أمر غير ممكن لأسباب عملية ونظرية، فمن الناحية العملية، ليس من الممكن إنتاج رصاصتين مع عدد حبات البارود نفسها، حيث تساوي كل حبة في الشكل والمضمون والحجم والفاعلية مثيلتها في الرصاصة الثانية، ومن ثم لا يمكن أن تتساوى السرعة بين رصاصتين.
أما على المستوى النظري، فإن التساوي هو مسألة غير ممكنة خارج الأشكال النظرية والمجردة التي يقوم عليها علم الرياضيات فعندما يقال إن التفاحتين متساويتان بالوزن، فإن هذا التساوي يصح فقط لأداة القياس، فلو تم استعمال أداة أكثر دقة للقياس، فإنهما لن تبدوا متساويتين.
وعلى عكس الشائع عن الثقة والسيطرة اللتين يوحي بهما العلم، فإن المتعمق لن يجد إلا معضلات عجز عنها العلم. كثيرة هي الحالات مثل إصابة صاروخ بصاروخ التي تحدث على حافة الممكن علمياً، حيث تصبح الاحتمالات والحلول التقريبية هي السائدة بدلاً من اليقين والدقة.
الصاروخ هو نظام معقد بالتأكيد تؤثر فيه عوامل هائلة وكثيرة ذاتية وخارجية، فمثلاً، لا يمكن وصف الفضاء الذي يعبره الصاروخ بالمتجانس، بل هو متنوع ومتغير تعم فيه التيارات الهوائية الحارة والغيوم.
وهكذا نخلص إلى القول: إنه سيمضي وقت طويل قبل أن يُعرف مدى النجاح الحقيقي الذي يمكن أن تحققه القبة الحديدية وأخواتها الشبيهة مثل الدرع الصاروخية، وأكبر شاهد على ذلك أنه في حرب إسرائيل الأخيرة على غزة لم تستطع القبة الحديدية التي جعلت منها الدعاية الإسرائيلية أسطورة، وصوّرتها على أنها حققت الحماية الكاملة لإسرائيل مواطنين ومنشآت ومواقع متعددة الأنواع والأغراض، لم تستطع أن تعترض إلا عدداً لا يتجاوز أصابع اليدين من صواريخ المقاومة الفلسطينية التي أطلقت على إسرائيل، رغم أن عدداً كبيراً من هذه الصواريخ من صُنعٍ محلي وبدائية، فكيف يمكن لهذه القبة أن تتصدى للصواريخ المتطورة؟
وبالتالي، فإن لهذه القبة طابعاً دعائيّاً هوليوودياً، كما حصل لحرب النجوم التي أشرنا إليها قبل قليل. وما يجدر ذكره- إضافة إلى ذلك، أنه في العالم العسكري الاستراتيجي والتكتيكي، فإن النصر أو الهزيمة أمران يتعلقان بحالة القناعة أكثر من الواقع، ويحتل الخداع بالصورة أو بالخبر الكاذب مكانة كبيرة، ويعتبر من طرق تحقيق النجاح.
إذاً، إن إسرائيل التي نامت طويلاً على حرير التفوق استيقظت لترى نفسها أمام أكثر من إعصار يبتلع الخرافات التي روجت لها على مدى عقودٍ خلت.
* د. صياح عزام